والتمسك بالسنة، وتقصّ عنه فى ذلك حكايات كثيرة، مما جعل أبا العرب والمالكى والدباغ يطيلون فى الترجمة له. ومن المحدثين بعده يزيد بن محمد الجمحى المستشهد فى فتح صقلية سنة ٢١٢ هـ/٨٢٧ م وكان ثقة صدوقا كثير الحديث سمع من مالك بن أنس فى المدينة وغيره من كوفيين وبصريين وشاميين. وكان يعاصره موسى بن معاوية الصمادحى المتوفى سنة ٢٢٥ هـ/٨٣٩ م وأكثر مثل الجمحى من الأخذ عن مالك والكوفيين والبصريين وغيرهم، وكان يرابط بالمنستير على الساحل قرب القيروان فى شهر رمضان، ويقول عنه سحنون إنه كان أطول رفقتنا صلاة، وربما أمضى بعض الليالى مصليا. ومن معاصريه عون بن يوسف الخزاعى المتوفى سنة ٢٣٩ هـ/٨٥٣ م وكان إذا قال فى كتبه «حدّثنا» فهو سماع، وإذا قال «أخبرنا» فهو إجازة. ويزدهر مذهب مالك فى القيروان منذ القرن الثالث الهجرى، وكان العلم المنصوب بأعين أصحابه كتابه «الموطأ» وهو كتاب فقه وحديث، مما جعل فقهاءه جميعا محدّثين، ولذلك من الصعب أن نفرد المحدثين من الفقهاء منذ هذا القرن.
ونكتفى بذكر ألمع المحدثين فى القرون التالية، ومن ألمعهم وأنبههم فى القرن الرابع الهجرى أبو الحسن القابسى على بن محمد بن خلف المار ذكره فى صدر حديثنا عن دور العلم، وإليه انتهى تدريس الحديث النبوى فى القيروان وكان قد رحل إلى المشرق ورجع منه بكنوز نفيسة أهمها ما حمله إلى الطلاب والشيوخ فى جامع الزيتونة من صحيح البخارى، وكان يدرسه للطلاب، وعنيت به إفريقية التونسية بعده كما عنيت بصحيح مسلم، وهما جميعا وكتب السنة الأربعة المشهورة: للترمذى والنسائى وأبى داود وابن ماجة محل إجلال وتوقير فى بلدان العالم الإسلامى جميعه. وللمازرى محمد بن على الصقلى نزيل المهدية وحامل لواء العلوم الدينية فيها وفى البلدان المغربية المدفون بالمنستير سنة ٥٣٦ هـ/١١٤١ م شرح نفيس على صحيح مسلم سماه المعلم بفوائد مسلم، وشرحه القاضى عياض باسم إكمال المعلم بفوائد صحيح مسلم، وللأبى التونسى المار ذكره بين المفسرين شرح على صحيح مسلم سماه:«إكمال الإكمال بفوائد مسلم» فى سبع مجلدات جمع فيه بين شرح المازرى، وشرح عياض، وشرح النووى. ومن كبار المحدثين فى القرن الثامن شمس الدين أبو عبد الله محمد بن جابر الوادى آشى الأصل التونسى المولد والموطن المتوفى سنة ٧٤٠ هـ/١٣٣٩ م. وكان يقرئ تلاميذه فى جامع الزيتونة الصحيحين: صحيح البخارى وصحيح مسلم. ونلتقى فى أوائل العهد العثمانى بالشيخ إبراهيم الرياحى وكان يدرس للطلاب شرح القسطلانى على صحيح البخارى، ويذكر ابن أبى دينار فى أواخر كتابه «المؤنس» طائفة من كبار المحدثين فى القرن الحادى عشر الهجرى بتونس، منهم أبو العباس أحمد الشريف الحنفى وأبو الحسن على الغماد وسعيد المحجوز وأبو عبد الله محمد تاج العارفين العثمانى، وممّن يضاف إلى هؤلاء المحدثين من كتاب ذيل بشائر أهل الإيمان بفتوحات آل عثمان محمد برناز، ومحمد قويسم، ومحمد فتاتة ومحمد زيتونة.