وكان الفقهاء فى أول الأمر يجمعون كما ذكرنا بين إقراء القرآن ورواية الحديث النبوى والفتوى فيما يجد من أمور الدين، ولذلك من الصعب أن نميز فى القرن الأول الهجرى وغير قليل من القرن الثانى بين الفقيه والمحدث والمقرئ، ونفس بعثة عمر بن عبد العزيز فى سنة مائة للهجرة يقال عن كل منهم فى كتب التراجم إنه يجمع بين هذه الصفات الثلاث أو قل إنها تصف بذلك نفرا منهم وتترك الباقين لأنه معروف أنهم جاءوا لتحفيظ الناس والناشئة القرآن وتفقيههم فى الدين بما يلقّنونهم من تعاليمه ومن أحاديث الرسول صلّى الله عليه وسلّم. ونقرأ عن على بن رباح اللخمىّ أنه قدم إفريقيا غازيا فى عهد موسى بن نصير وأنه سكن القيروان واختط بها مسجدا ومنزلا لسكناه وأن أهلها تفقهوا عليه، وهو تابعى روى عن عمرو بن العاص وأبى هريرة وأبى قتادة وغيرهم من الصحابة، وبذلك نستطيع أن نعده أول فقيه قيروانى. وجاء بعده خالد بن أبى عمران التّجيبى، قدم أبوه مع جيش حسان بن النعمان واستوطن مدينة تونس، وولد له فيها خالد وحفّظه أبوه القرآن وروى عنه وعن بعض القيروانيين الحديث ورحل إلى المشرق وسمع من القاسم بن محمد بن أبى بكر الصديق ومن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب ومن عروة بن الزبير وله كتاب كبير عنهم فى الحديث وروى له مالك فى الموطأ بعض أحاديث نبوية سمعها-كما مر بنا-من يحيى بن سعيد فى القيروان، وكان فقيها بصيرا بالفتوى وتولّى قضاء تونس إلى أن توفى سنة ١٢٣ هـ/٧٤٠ م. ونلتقى بعده بأبى كريب عبد الرحمن بن كريب قاضى القيروان وفقيهها المستشهد فى حرب الصّفرية سنة ١٣٩ هـ/٧٥٦ م.
وأخذ كثيرون من القيروانيين يرحلون إلى الحجاز لأداء فريضة الحج ولقاء مالك إمام دار الهجرة: المدينة، وسماع الموطّأ منه، ولم يلبث نفر منهم أن تجردوا لحمل الكتاب، وسبق إلى ذلك على بن زياد من أبناء تونس-كما مرّ بنا فى غير هذا الموضع-فكان أول من جلبه إلى موطنه، وأخذ يدرسه فى جامع الزيتونة، وحمله-أو أخذه عنه-كثيرون من تونس ومن القيروان ومن غيرهما، ويقول الأستاذ حسن حسنى عبد الوهاب توجد قطعة من روايته للموطأ فى مكتبة القيروان العتيقة، ومر بنا تعريف به فى النشأة العلمية، توفى عن سن عالية سنة ١٨٣ هـ/٧٩٩ م وذكرنا أنه كان يعاصره عبد الله بن فرّوخ، وكان أبوه خراسانيا قدم إلى القيروان فى جيوش الأمويين وسكنها وولد له فيها عبد الله، وقد حفظ القرآن ثم تتلمذ على شيوخ بلدته، حتى إذا أخذ ما عندهم اتجه إلى العراق، ونزل الكوفة وصحب الإمام أبا حنيفة مدة طويلة مكنته من أن يحمل عنه مذهبه الفقهى الحنفى، ولم يرجع إلى القيروان مباشرة بل عرّج على المدينة وسمع الإمام مالكا وهو يلقى الموطّأ، ورجع إلى القيروان، وأخذ ينشر فى طلابه فقه أبى حنيفة، توفى سنة ١٧٢ هـ/٧٨٨ م. وكان من أنبه الطلاب فى زمنه وزمن على بن زياد شاب تونسى هو أسد بن الفرات، كان أبوه خراسانيا، دخل تونس مع جيش ابن الأشعث