للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فى حلبة، ويراها حين تعانق الرمال يعلوها لونان أسود منها وأبيض من الزبد مما يجعلها بلقاء فى مرأى العين، وكأنما الرمال تحيلها درا سائلا بينما أواخرها يتصبب عرقا أو زبدا. وكان على بن حبيب التنوخى شاعرا عذب اللفظ-كما يقول ابن رشيق-لطيف المعنى قليل التكلف، وقد توفى حوالى سنة ٤٤٠ هـ‍/١٠٤٩ م وله فى تصوير المد والجزر عند صفاقس (١):

بلد يكاد يقول حي‍ ... ن تزوره أهلا وسهلا

وكأنه والبحر يح‍ ... سر تارة عنه ويملا

صبّ يريد زيارة ... فإذا رأى الرّقباء ولّى

وهو تعليل طريف للمد والجزر أمام صفاقس التى ترحب دائما بضيوفها، وكأنما أمواج البحر، حين تمتد أمامها وتقترب منها وسرعان ما تتراجع، عاشق يريد زيارتها، ويرى الرقباء فيولّى راجعا من حيث أتى.

ونلتقى بأبى زكريا مؤسس الدولة الحفصية، وكان شاعرا مجيدا وناقدا بصيرا بالشعر، وله أشعار مختلفة فى الحماسة ووصف آلات الحرب وغير ذلك. ومن شعره يصف حديقة ونهرها وأزهارها من الرياض التى أنشأها قرب عاصمته تونس باسم أبى فهر (٢):

وسال نمير الماء بين اخضرارها ... فجاء كمثل الفرق بين الذّوائب

وإلا كما شقّ الكنهور بارق ... وإلا كمثل الصّبح بين الغياهب (٣)

وللنّرجس النّضر اصفرار تخاله ... كشمس أصيل بين بيض السحائب

وللياسمين الغضّ فى خضر بسطها ... نثائر درّ أو سبائك ساكب

معطرة الأردان يفغم نفحها ... يحيّيك عرف الطّيب من كل جانب (٤)

فماؤها العذب ينساب بين خضرتها المائلة إلى السواد وكأنه فرق شعر فى أعلى ضفائر أو كأنه برق فى كنهور أو سحاب متراكم أو كأنه ضوء صبح يشق غياهب الليل وظلماته. ويقول إن النرجس النضر المصفر يتهدل بين الأزهار البيضاء كشمس أصيل تنسدل على الطبيعة من خلال سحب بيضاء، وزهر الياسمين يتناثر على بسطها وكأنه نثار درّ أو سبائك صانع حاذق، والحديقة جميعها معطرة الجوانب، ونفحها يحمل أفاويه ذكية، ويحييك شذا طيبها من كل منعطف وركن.

ويستمر أبو زكريا فى مثل هذا الوصف بقصيدته. وممن وصف جنات «توزر» وحدائقها شاعرها


(١) الأنموذج ص ٢٨١ والحلل السندسية ٢/ ٣٢٦.
(٢) المجمل فى تاريخ الأدب التونسى ص ١٨٩.
(٣) الكنهور: قطع السحاب الضخمة.
(٤) الأردان: الأكمام يريد أكمام الزهر، يفغم نفحها: تملأ المكان بأفاويه الطيب. عرف: شذا ورائحة.

<<  <  ج: ص:  >  >>