حبيب اللغوى الصقلى أحد رجال اللغة المعدودين والعلماء بها المبرزين، ومنهم طاهر بن محمد الرقبانى الصقلى اللغوى، ويقول القفطى عنه: لم يكن فى زمانه أعلم منه بلغة العرب وكلامها، ونثرها ونظامها، وقصدته العلماء من كل مكان فلقوا منه بحرا خضرما (واسعا) وعلى شاكلته ابنه على بن طاهر الرقبانى، وكان حافظا للغة وأيام العرب، جامعا لأدوات الأدب. وما نلبث فى القرن الخامس أن نلتقى قبل الغزو النورمانى بعلم كبير من أعلام اللغة والنحو تكونت له بها مدرسة لغوية كبيرة هو محمد بن على بن الحسين بن البرّ التميمى، ولد بصقلية فى أواخر القرن الرابع الهجرى، حتى إذا أخذ ما لدى شيوخها من اللغة والنحو رحل عنها إلى المشرق للتزود منهما، وألقى عصاه بالقاهرة، وتتلمذ فيها ليوسف النجيرمى المتوفى سنة ٤٢٣ هـ/١٠٣١ م وهو أهم من روى عنه المصريون كتب اللغة ودواوين الشعراء، يقول ابن خلكان:«أكثر ما تروى الكتب القديمة فى اللغة والأشعار العربية وأيام العرب فى الديار المصرية من طريقه» وكان ما يزال يراجع الروايات المختلفة للكتاب أو للديوان ويقابل بينها حتى يخرجه فى أوثق صورة ممكنة، وبجانب الدواوين التى أخذها عن النجيرمى وفى مقدمتها ديوان ذى الرمة أخذ فى القاهرة عن صالح بن رشدين ديوان المتنبى الذى سمعه مباشرة من المتنبى وشرحه له، وأخذ أيضا فى القاهرة عن ابن بابشاذ مقدمته المشهورة فى النحو، وعاد إلى موطنه، واتخذ مدينة مازر مقاما له، وأكرمه صاحبها ابن متكود وقرّبه منه، وتحوّل إلى مدينة بلرم سنة ٤٥٠ واتسعت شهرته وجاءه الطلاب من كل فج صقليين وغير صقليين، ومن الصقليين على بن جعفر السعدى المعروف بابن القطاع وسنعود إلى الحديث عنه فى أيام النورمان، ومن تلاميذه غير الصقليين عبد الله بن إبراهيم الصيرفى ومنه سمع ديوان المتنبى سنة ٤٥٩، ومنهم عبد المنعم بن منّ الله القروى المعروف بابن الكماد وقد ألممنا به فى كتابنا عن الأندلس وردّه المفحم على رسالة ابن غرسية، وحرى بنا أن نذكر أن من تلاميذه الصقليين عمر بن خلف المشهور باسم ابن مكى الصقلى مصنف كتاب تثقيف اللسان الذى سجل فيه الأغلاط التى سمعها من أفواه العلماء وغيرهم ونراه يقول فى مقدمته إنه عرضه على أستاذه ابن البرّ «الإمام الأوحد والعلم الفرد، فأثبت ما عرفه وارتضاه، ومحا ما أنكره وأباه». وقد وزّع ابن مكى كتابه على خمسين بابا تحدث فيها عن التصحيف والتبديل والزيادة والنقص فى الأسماء وكذلك الزيادة والنقص فى الأفعال وتأنيث المذكر، وتذكير المؤنث إلى غير ذلك من صور الغلط على ألسنة الخاصة والعامة، وأضاف إلى ذلك فصولا طريفة عن أخطاء القرّاء والمحدّثين والفقهاء والأطباء. والكتاب يدل على أنه كان فى صقلية حينئذ حركة لغوية خصبة بثّها ابن البر فى تلاميذه كى يخلّصوا الألسنة من أغلاطها وخاصة ألسنة العلماء. وما توافى سنة ٤٦٠ هـ/١٠٦٧ م حتى يبارح ابن البر صقلية إلى الأندلس، ويبارحها تلميذه ابن مكى إلى تونس، ويقول العماد الأصبهانى عنه فى ترجمته بالخريدة: «ولى قضاء تونس وهو فقيه محدث خطيب لغوى، وفضله بالألسنة فى جميع الأمكنة