مأثور مروى، وله خطب لا تقصّر عن خطب ابن نباتة». وابن نباتة أكبر خطيب أنتجه المشرق، وكان خطيب سيف الدولة فى حربه لبيزنطة. ولعل فى هذه الشهادة لخطيب من صقلية ما يمحو محوا ما زعمه ابن حوقل عن خطيب شاهده ببلرم يوم جمعة يجزم الأسماء مع الوصل ويجرّ الأفعال من أول خطبته إلى آخرها، وليس فى المستمعين له من مسلمى بلرم من يعترض عليه، مع أنه ظل يخطبهم نحو عامين! وذكرنا-فيما أسلفنا-أنه كان مغرضا فى كل ما وصف به صقلية لأنها كانت ترفض المذهب الشيعى الإسماعيلى مذهب الدولة الفاطمية، فاتهاماته لها ولخطبائها اتهامات زائفة، وسنراها تنتج فى مجال الدراسات الدينية والأدب شعرا ونثرا ما يؤكد بطلان اتهاماته.
ويدل ما قدمنا على أنه وصلت الشباب الصقلى مجموعة اليتيمة للثعالبى وديوان ذى الرمة وغيره من شعراء الجاهلية والإسلام، كما وصلتهم دواوين عباسية مختلفة لأبى تمام وابن الرومى والمتبنى وأضرابهم، ولا بد أن وصلهم كتاب البيان والتبيين للجاحظ وما به من خطب ومجموعة زهر الآداب للحصرى، وما من شك فى أن أكثر مجاميع الأدب المؤلفة فى المشرق وصلتهم ومرّ بنا أن ابن البرّ كان يروى بين ما يروى من الكتب والدواوين كتاب أدب الكاتب لابن قتيبة، وكل ذلك كان له تأثيره فى نشوء ذوق أدبى عام فى صقلية بين الشباب والشيوخ، ولا بد أن اطلعوا على بعض الكتابات البلاغية والنقدية فى المشرق بدليل استخدام شعرائهم وكتّابهم لمحسنات البديع، وبدليل ما فى أشعارهم من عذوبة وسلاسة، وكان حظ الشباب فى صقلية عظيما إذ نزل ابن رشيق فى أواخر أيامه بمازر واتخذها مقاما له إلى وفاته سنة ٤٥٦ هـ/١٠٦٣ م وظل هناك سنوات يدرس للطلاب كتابه العمدة فى صناعة الشعر ونقده ويعد من أروع كتب الأسلاف فى النقد وفى بيان المحسنات البلاغية إن لم يكن أروعها كما يقول ابن خلدون، وقرأه عليه ابن متكود والى مازر بشهادة نسخة من الكتاب وقعت للقفطى كما يقول فى ترجمته بكتابه إنباه الرواة وأخذ الطلاب فى صقلية بمازر وغير مازر يتدارسونه فى حياته وبعد وفاته. ومعنى ذلك أن صقلية أتيح لها من المختارات الشعرية والنثرية ما أتاح لأدبائها ملكات أدبية خصبة كما أتيح لها من كتب البلاغة والنقد، وفى مقدمتها كتاب العمدة ما أتاح لأدبائها جمال الصياغة ودقة الذوق الأدبى ورهافته.
وإذا تركنا الدراسات النقدية واللغوية فى صقلية الإسلامية إلى الدراسات الدينية وجدنا من كبار قرائها فى القرن الرابع الهجرى محمد بن خراسان كما فى طبقات القراء لابن الجزرى، طلب العلم بمصر وفيها درس القراءات والحديث النبوى وتتلمذ لأبى جعفر النحاس وكتب عنه مصنفاته وقرأها عليه وكان بينها كتابه إعراب القرآن، وظل مقرئا متصدرا بصقلية إلى أن توفى سنة ٣٨٦ هـ/٩٩٦ م وقد بلغ ستا وتسعين، وممن روى القراءة عنه يوسف بن حبيب وغيلان بن