وما يحفّ بالعيون فيها من حور عين، غير أنه أسرع فى مغادرتها إسراع من يطلب بالدّين أو كمن يطلب فى صقلية بالدّين مشيرا بذلك إلى اضطهاد المسلمين فيها، ويقول إنه نزل ثنر مسّينى وظل فيها تسعين يوما عند جلف ثقيل الظل لا يخفّ أبدا حتى لو طار بجناحى جبريل، وركب السفينة أو المجنونة كما يسميها على ماء مجنون حتى ليظن أنه سيكون طعاما للحيتان، وينزل سرقوسة أخيرا ويجد فيها الملجأ الأمين. والقصيدة وصف بديع لرحلة بحرية فى صقلية، وقد أتبعها بوصفه لرحلة برية من سرقوسة إلى بلرم حيث راعيه الأمين أبو القاسم بن الحجر، ولا يتضح سبب رحلته إلى سرقوسة وعودته، وفى رأيى أنه كان يبحث فى الثغور التى مرّ بها عمن يحدثه عن مصر وأحوالها وهل لا يزال شاور وأعوانه متسلطين فيها على الحكم، وكان أسد الدين شيركوه وابن أخيه صلاح الدين قد عادا إلى مصر سنة ٥٦٤ فى قدمتهما الثالثة، وسرعان ما قبض على شاور وقتل وتولى أسد الدين الوزارة لمدة شهرين وتوفى، وتولاها صلاح الدين.
وأكبر الظن أن كل ذلك علم به ابن قلاقس، فاطمأن وصمّم على العودة إلى وطنه بعد وداع راعيه أبى القاسم وأصدقائه فى بلرم من مثل هبة الله السديد الحصرى وله فيه مدائح بديعة ومثل الفقيه أبى الحسن على بن أبى الفتح بن خلف الأموى، ويقول عنه فى كتابه الزهر الباسم:«هو حدقة العلم الناظرة، وحديقة الأدب الناضرة» ويسوق ابن قلاقس فى الكتاب ما كان بينهما من مكاتبات شعرية قبيل رحيله، وله يقول مودعا:
تخذتك من صقلّية خليلا ... فكنت الورد يقطف من قتاد
وشمتك بين أهليها صفيّا ... فكنت الجمر يقبس من زناد
وابن قلاقس لا يريد أن يهجو صقلية وأهلها بأنهم شوك وابن خلف وحده هو الورد، ولا أنهم زناد صلد لا يخرج منه شرر وهو وحده الجمر، وكل ما فى الأمر أنه مدحه مودعا وبالغ فى مدحه. ولابن قلاقس أشعار متعددة فى وصف مجالس الشراب بصقلية ووصف المغنين بها والراقصات من مثل قوله:
ومغنّ تناولت يده العو ... د فعادت بنا إلى الأفراح
بين ريح من المزامير أسرى ... بين أجسامنا من الأرواح
وصباح قد عقدوا طرر اللّي ... ل جمالا على الوجوه الصّباح
يبعث الرقص منهم حركات ... سرقت بعضها طوال الرّماح
وهو يقول إن صوت المغنى وهو يضرب على العود صوت مفرح ونسيم أنغام المزامير من حولهم تسرى فى أجسامهم سريان الأرواح، وراقصات فاتنات تنهدل خصل الشعر على جباههنّ وهن يتثنين ويتحركن حركات رشيقة، وكأنما سرقت الرماح فى أيدى المحاربين بعض