وبخاصة فى تاريخ عبد الرحمن أبى تاشفين (٧١٨ - ٧٣٧ هـ) فقد كان مولعا بتشييد القصور- كما يقول يحيى بن خلدون-مستظهرا على ذلك بآلاف عديدة من فعلة الأسارى الأجانب وغيرهم من نجارين وبناءين ومبلّطين للخزف وزوّاقين، وشاد قصورا عدة: دار الملك ودار السرور وأبا فهر وغيرها والصهريج الأعظم الذى لا يزال موجودا-كما يقول الأستاذ محمود أبو عياد-غربى المدينة. وإذا كان بناء ثلاث قصور استلزم آلافا من العمال فما بالنا بمن بنوا مدنا بقصورها ومساجدها وكل منشآتها العمرانية. وكل هذه القصور والمدن استلزمت صناعات كثيرة من نجارة وحدادة ونقاشة وقدرة على استخدام الفسيفساء (الموزايكو) فى الحيطان والسقوف والأروقة مع رسوم مختلفة من الرياحين والأزهار، ونضرب مثلا لروعة العمارة فى مدن الجزائر بقول الحسن الوزان عن مدينة بجاية المبنية فوق سفح جبل شديد الارتفاع على ساحل البحر المتوسط إنها تمتد من حيث العرض على خاصرة الجبل امتدادا كبيرا خارقا للعادة، وسائر بيوتها جميلة، وهى مجهّزة بالجوامع بشكل طيب وبالمدارس التى يكثر فيها الطلاب وكذلك أساتذة الشريعة والعلوم، كما تحوى أيضا زوايا للمتعبدين المسلمين، وحمامات وفنادق ومارستانات وكلها عمارات حسنة البنيان وأسواقها جميلة حسنة التنسيق، وتقوم المدينة كلها على تلال صغيرة حتى إنه ليتعذر السير بضع خطوات بدون صعود أو نزول. وإلى جانب الجبل-أو جانبها-توجد قلعة كبيرة ذات جدران متينة، وتزدان بالكثير من الفسيفساء وبالجص المجزّع وبالأخشاب المحفورة بالنقوش التى تعلوها رسومات عجيبة بلون أزرق سماوى، حتى لتساوى هذه الأشغال الفنية من حيث القيمة أكثر من البنيان ذاته». وإنما نقلنا هذا النص الطويل لندل بوضوح على ارتقاء صناعة المدن والقصور فى الجزائر وكيف أنه رافقها ارتقاء فى الحفر والنقش والزينة بالفسيفساء والرسومات العجيبة باللون الأزرق البهيج، وقد خلبت بروعتها وحسنها لبّ الحسن الوزان كما خلبه جمال البيوت وعمارتها وعمارة جميع المؤسسات وحتى الأسواق. وكل ذلك إنما نهض به فى بجاية وغيرها من مدن الجزائر أيد بالغة المهارة فى العمارة وكل ما يتصل بها من زخرف وزينة.
وهيّأ هذا الإنتاج الصناعى الوافر وما سبقه من الإنتاج الزراعى القطر الجزائرى لأن تصبح موانيه أسواقا عالمية، فكانت تصدر منتجاتها شمالا إلى الغرب وشرقا إلى تركيا والشام ومصر، ومنذ عصر الفينيقيين كانت قوافلها تعبر فلوات الصحراء الكبرى إلى السودان الأوسط والغربى محملة بالسلع الجزائرية من المنسوجات على اختلاف أنواعها صوفية وكتانية وقطنية ومن النقل جوزا وغير جوز ومن الزيتون والزيت ومن السروج واللبود والمفاتيح وأقفال الحديد، وتعود محملة بالعاج وريش النعام والتّبر والجلود والرقيق السودانى. ونستطيع تصور الحركة التجارية ومدى نشاطها إذا رجعنا إلى ما كتبه الحسن الوزان وغيره عنها فى الموانى والمدن الكبرى، فمن ذلك ما يقوله عن ميناء القالة، وكانت تعرف باسم مرسى الخزر: «إن أهلها يقومون