اعتنقوها يعتنقون الدين الحنيف، وأقبلت عليه جموع البربر وجماهيرها، لبساطته ولتحريره الشعوب من كل عبودية واسترقاق وظلم مع محوه لجميع الفوارق الطبقية والاجتماعية بين رعيته فهم جميعا سواء فى الحقوق والواجبات، وهذا هو التفسير الصحيح لقضاء الإسلام على المسيحية فى القطر الجزائرى وغيره من الأقطار المغربية، مع ملاحظة أن العرب عاملوا من ظلوا على مسيحيتهم من الروم وغيرهم معاملة سمحة كما يقضى بذلك دينهم وجعلوا لهم حقا مفروضا إقامتهم لشعائر دينهم المسيحى وتجديد كنائسهم ولم يمسوا أى مس حريتهم الدينية. وظل ذلك لا فى القرون الأولى بعد الفتح فحسب، بل أيضا فى جميع القرون، حتى لنجد الناصر بن علناس أمير دولة بنى حماد فى بجاية والقلعة يرسل-كما أشرنا إلى ذلك فى الفصل الماضى-خطابا رقيقا إلى البابا جريجوار السابع الذى تولى البابوية بين سنتى ١٠٧٣ و ١٠٨٥ خطابا رقيقا يطلب إليه فيه تكريس القديس سرفاند أسقفا على أبرشية بونة (عنابة) وأرسل إليه معه بهدايا نفيسة، وأهم من ذلك أنه افتدى جميع الأسرى المسيحيين الذين جلبهم القراصنة إلى مملكته وأرسل بهم إليه. وكان لذلك أجمل وقع فى نفس البابا وكبار رجال الكنيسة فى روما، وأرسل إليه مع الأسقف الجديد لبونة برسالة تفيض بشكره وشكر القسيسين وأشراف روما لهذا العمل النبيل محييا عقيدة المسلمين التى تشترك مع عقيدة المسيحيين- كما يقول-فى الاعتقاد بإله واحد خالد. وإنما سقت ذلك لأدل على مدى المعاملة الطيبة للمسيحيين فى الجزائر، وكانت لهم فى مدنها الكبيرة بعض الأحياء، كما كان لهم-مثل اليهود-مقابر خاصة. ومرّ بنا أن القرصنة اتسعت منذ القرن العاشر إلى نهاية هذا العصر، مما أدّى إلى وفود آلاف من الأسرى المسيحيين على الجزائر من مختلف مناطق البحر المتوسط (إسبان وفرنسيين وإيطاليين وكريتيين وصقليين ويونان) وكانوا يعدون رقيقا فى خدمة الدولة أو فى خدمة بعض الأعيان، وكانوا يزاولون الزراعة وحرف الصناعة والبناء ويزعم دابر Dapper فى وصف إفريقية أنه كان بمدينة الجزائر ستة آلاف أسرة من هؤلاء المسيحيين الأسرى ممن جلبهم القراصنة، وكان كثيرون من هذا الرقيق المسيحى الأسير يسلمون وتردّ إليهم حرياتهم ويكونون أسرّا ما زال بعضها يحمل اسم بلدهم الأصلى، وعمل بعضهم فى الدولة وارتقى إلى المناصب الرفيعة.
ومنذ فتح المسلمون المغرب الأوسط أو إقليم الجزائر، والبربر يسارعون إلى الدين الحنيف واعتناقه، ويبدو ذلك واضحا فى عهد أبى المهاجر دينار (٥٥ هـ/٦٧٤ م-٦٢ هـ/٦٨١ م) إذ يرجع إليه الفضل فى فتح جميع الجزائر ونشر الدين الحنيف فيها وكانت قد فتحت بعض أرجائها وأخذ أهلها يتعرفون على الإسلام ويدخلون فيه، فأتم ذلك كله، متخذا له جيشا جرارا من العرب والبربر المسلمين. وسمع أن الروم وبعض البربر يتجمعون لحربه فى مدينة ميلة إلى الجنوب الشرقى من بجاية، فنازلهم واحتل البلدة واتخذها مركزا لأعماله الحربية وظل