للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أبى العميثل (١)، فإذا أدرك بغيته، واخترمته-بعد-منيته، دفن علمه معه، ومات ذكره، وانقطع خبره. ومن قدّمنا ذكره من علماء الأمصار احتالوا لبقاء ذكرهم، فألّفوا دواوين يبقى لهم بها ذكر يتجدّد طول الأبد. فإن قلت إنه كان مثل ذلك من علمائكم، وألفوا كتبا لكنها لم تضل إلينا، فهذه دعوى لم يصحبها تحقيق، لأنه ليس بيننا وبينكم إلا روحة راكب، أو رحلة قارب، لو نفث (٢) ببلدكم مصدور، لأسمع ببلدنا من فى القبور، فضلا عمّن فى الدور والقصور، وتلقّوا قوله بالقبول، كما تلقوا ديوان ابن عبد ربه منكم الذى سمّاه بالعقد (٣). على أنه يلحقه فيه بعض اللّوم، إذ لم يجعل فضائل بلده واسطة (٤) عقده، ومناقب ملوكه يتيمة سلكه، لكنه أكثر وطوّل، وأخطأ المفصل (٥)، وأطال الهزّ بسيف غير مقصل (٦)، وقعد به ما قعد بأصحابه من ترك ما يعنيهم، وإغفال ما يهمهم. فأرشد أخاك-أرشدك الله-إن كان عندك فى ذلك الجليّة، وبيدك فصل القضية، إن شاء الله».

وقد ذكرت الرسالة بتمامها لأدل على ما أصابه نثر الرسائل الشخصية من إحكام فى الصياغة، حتى ليقترب أسلوب الرسالة من أسلوب الجاحظ وما اشتهر به من المزاوجة وكثرة الترادف، فالعبارات تتقابل دون أن تتحد نهاياتها بأسجاع متعاقبة، وإن حدثت سجعة عفوا سرعان ما يعدل ابن الربيب عن مثيلة لها إلى التعادل والترادف فى العبارات. ونشعر بجانب ذلك أن الصياغة محكمة، فالألفاظ جزلة مصقولة، أحكم ترتيبها كما أحكم وضع الاقتباسين القرآنيين فيها، مع الإطراف فى الكنايات والاستعارات، كتعبيره فى تكاسل الأندلسيين عن الكتابة عن أعلام بلدهم، إذ يقول: «كل امرئ منهم قائم فى ظله لا يبرح، وثابت على كعبه لا يتزحزح» ويقول عمن أهمل الكتابة عن الكتاب والوزراء: إنه «لم يبلّ قلما بمناقبهم» يقصد أنه لم يغمس قلمه فى مداد للكتابة عنهم. ويترك الكناية إلى الاستعارة قائلا: «على أنه لو أطلق ما عقل الإغفال من لسانه، وبسط ما قبض الإهمال من بيانه». ويستغل ثقافته فى التعبير عن الفوز والظفر، إذ يقول: وليستغل قصب السّبق، ويفوز بقدح ابن مقبل الذى تغنى فى شعره بفوزه، ويأخذ بكظم دغفل كأنما يساويه فى قدرته المشهورة بعلم الأنساب، ويصبح شجى وغصّة فى حلق أبى العميثل على نحو ما أصابه أبو تمام بغصة مريرة حين ردّ عليه ردّا مفحما. وتلطّف ابن الربيب لمخاطبه أبى المغيرة بن حزم الأندلسى حين قال له:


(١) أبو العميثل هو الذى تعرض لأبى تمام يقول له لماذا لا تقول من الشعر ما يفهم فقال له: وأنت لماذا لا تفهم ما يقال.
(٢) نفث: نفخ.
(٣) هو كتاب العقد الفريد المشهور.
(٤) واسطة العقد: الجوهرة الكبيرة فى وسط العقد.
(٥) المفصل: كل ملتقى عظمين فى الجسد ويضرب التعبير مثلا للخطإ الجسيم.
(٦) المقصل من السيوف: القاطع.

<<  <  ج: ص:  >  >>