للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وابن حمادوش يقول إن أغرب ما رآه فى طريقه من تطوان إلى مكناسة طائرات من الغر فى بركة بأحد المروج، والغر معروف فى مصر بنفس الاسم ويرى كثيرا شتاء فى الإسكندرية ودمياط وبور سعيد أو بعبارة أدق فى البرك والبحيرات هناك. ويذكر للناس هناك قصة عنه: أنه بينى أفحوصه أو مرقده للبيض على قطعة من حصير الكلأ، وإنه ما يزال يتعهد بيضه حتى لا يمسه الماء فيفسد، وحتى يفرخ، ويصف بيضه وصفا دقيقا، ثم يذكر ما رآه فى نفس المرج وبركته من قوارب صيد السمك والطير وبيضه، وكيف أنها كانت تصنع من نبات البردى، وتضم حزمه بعضها إلى بعض بحبال الدوم الرقاق، وهى بذلك تشبه أدق الشبه قوارب الصيد أيام الفراعنة، وتطورت هذه القوارب عند المصريين حتى أصبحت سفنا كبيرة تجرى فى المياه بمجاديف متعددة، ولم تكن أعواد القوارب التى رآها ابن حمادوش تقذف بمياه أى أنها لم تكن مجاديف، إنما كانت ما يسمى فى مصر عند صياديها وملاحيها باسم مدرى، وهى عود طويل من خشب يدفع به النّوتىّ القارب، ممسكا به بيديه ودافعا له بصدره بمنتهى ما يملك من قوة، ليندفع القارب كما يريد. وليس فى المقامة كدية ولا شحاذة أدبية بل هى وصف لطريق ومشاهده وصفا أدبيا. ولا يلبث ابن حمادوش أن يورد فى رحلته مقامة ثانية باسم المقامة الهركلية، ويستهلها قائلا (١):

«الحمد لله حدا بى حادى الرحلة إلى أن دخلت فى بعض أسفارى هركلة (٢)، فنزلت بها فى خان (٣) كأنه من أبيات النيران، أو كنائس الرهبان، بل لا شك أنه من أبيات العصيان، فلذلك لا يسرّ به الناظر، ولا ينشرح له الخاطر، فاختصصت منه بحجرة، أو نقرة فى حجرة، وكأنى وقعت من السماء فى حفرة، أو تبعت أفعوانا فدخلت جحره، فغلّقت بابى، لأحفظ حيائى وأومّن جنابى، من شدة أتعايى. . حتى مدّ الليل جناحه، وأوقد فى السماء مصباحه، وهدأت الأصوات، وصرنا كالأموات، وتوغلت فى حبائل النوم، ولم أدر ما هنالك من القوم، ولم توقظنى إلا جلبة الأصوات. . . وشددت الرحال، وتهيأت للترحال».

والمقامة ليس فيها إلا هذا الوصف للخان، فهى أضعف من صاحبتها أدبيا أو من حيث المشاهد الأدبية، وسمى البلد هركلة ولعله يريد هرجلة لما سمع فى الفندق من هرج وصياح وجلبة هنا وهناك، مما جعله يشد الرحال ويعزم على الترحال. ويورد فى رحلته مقامة ثالثة لكن لا فى وصف بعض المشاهد أو المدن أو الفنادق، وإنما فى وصف زوجته التى كانت تمتلئ عليه سخطا كما يقول فى رحلته حين تجده يخسر أمواله فى التجارة، وكذلك حين


(١) رحلة ابن حمادوش الجزائرى ص ٧٨.
(٢) هركلة: بلدة.
(٣) خان: فندق.

<<  <  ج: ص:  >  >>