للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الأباطح (١)، وامتلأت بجموعهم الموامى (٢) الفسائح. . وإن جموعهم لتكاثر الحصى (٣)، وتعادّ (٤) الدّبى، وتملأ الغيطان (٥) والرّبى».

ولغة الرسالة جزلة مختارة، اختارها كاتب حاذق يعرف كيف يسوّى من اللغة أساليب تروق القارئ بسجعها ورصانة ألفاظها عامدا فى أحيان كثيرة إلى تأكيد معنى العبارة التى يوردها بجملة أو جمل ترادفها، فتزيدها إيضاحا وبيانا كقوله فى أواخر ما اقتبس من رسالته: «وذاكرنا الجماعة المذكورة فى ذلك ذكرى أفضت إلى قلوبهم، وخلصت إلى نفوسهم، وتغلغلت فى بواطنهم، فتحركت إلى ذلك حفائظهم، ومارت لنصر دين الله عزائمهم». والرسالة وثيقة تاريخية مهمة لأنها ترينا سياسة الموحدين الحصيفة، إذ لم يكتفوا بأن يستشعر أعراب الجزائر وإفريقية التونسية الولاء لهم فحسب، فقد رأوا أن ينقلوا جماهير غفيرة منهم إلى الأندلس للاستعانة بهم فى الحرب الدائرة هناك بين دولة الموحدين ونصارى الأندلس وكان لهم أثر كبير فى رجحان كفة الموحدين على أولئك النصارى فى وقائعهم معهم، واستنّ تلك السنة الخليفة يعقوب الموحدى مثل أبيه يوسف، وبذلك انتصر فى موقعة الأرك المشهورة سنة ٥٩١ هـ‍/١١٩٤ م. ولم تفض هذه السياسة إلى انتصار الموحدين فى الأندلس لعهد يوسف ويعقوب فقط فقد أفضت أيضا إلى كفّ أيدى الأعراب عن العبث لمدة قرن فى بلاد المغرب وخاصة فى الجزائر. وآخر رسالة لابن محشرة احتفظ بها مجموع رسائل موحدية كتبها- كما مر بنا-سنة ٥٨٦ على لسان يعقوب الموحدى إلى الطلبة-الموحدين-الأعيان والأشياخ والكافة بسبتة يخبرهم فيها بغزوة جيشه لابن الريق النصرانى فى غربى الأندلس وتنكيله بمن معه واستيلائه على حصن عظيم من حصونهم يسمى طرّش. وهو يستهل الرسالة بقوله (٦):

«الحمد لله الذى أرغم لهذا الأمر العزيز شمّ المعاطس (٧)، وألان بأيده قباح (٨) الجامح الشامس، وأخضع لعزّته وسطوته كل جيد متطاول، وأخشع كل لحظ مشاوس (٩)، وحكم بظهور أمره، واستيلاء غلبته وقهره على ما توقّل (١٠) فى الشّمّ الشوامخ وتوغّل فى البيد البسابس (١١) ويسّر له من الفتوح الخارقة للعادة، المقودة بزمامى البركة والسعادة، ما تجاوز (١٢)


(١) الأباطح جمع أبطح: المكان المتسع يمر به السيل ويترك فيه التراب والحصى.
(٢) الموامى جمع موماة: المفازة الواسعة، وفى الأصل: المواهى.
(٣) الحصى: صغار الحجارة، وفى الأصل: الحصر.
(٤) تعاد: تفاخر فى كثرة العدد، والدّبى: الجراد وفى الأصل: معاد الرّبى.
(٥) الغيطان جمع غيط: المطمئن الواسع من الأرض. الربى جمع ربوة: ما ارتفع من الأرض.
(٦) مجموع رسائل موحدية ص ٢١٨.
(٧) المعاطس جمع معطس: الأنف والمراد بشم المعاطس الأعداء المستعلون.
(٨) قباح: عضد. الشامس: الجامح المستعصى.
(٩) مشاوس: متكبر.
(١٠) توقل: صعّد.
(١١) البسابس: القفر الخالية.
(١٢) تجاوز: زاد عن.

<<  <  ج: ص:  >  >>