سنة ١٩٢ وجعلها عدوتين أو شطرين: شطرا على الحافة الشرقية للنهر وشطرا إلى الغرب منه، ويفيض الحسن الوزان فى وصف جمال بيوتها وزينة حجارتها بالفسيفساء وطلاء سقوفها بطلاء لازوردى وذهبى وما فى الطوابق من شرفات كثيرة الزخرف، ويسترسل فى الحديث عن دهاليزها وما بها من أعمدة رخام ودعائم مقوسة وسقوف مزينة بنقوش متنوعة الألوان، ويتحدث عن مساجدها التى تبلغ ٦٠٠ مسجد وجامعها الكبير المسمى جامع القرويين وكان يوقد فيه كل ليلة ستمائة مصباح، وكانت تلقى فيه الدروس على الطلاب، وبذلك تحول- مثل الأزهر-إلى جامعة ضخمة. ويبسط القول فى المدارس والمعاهد والمارستانات والحمامات والفنادق بفاس وسوقها الضخم وصناعه ودكاكينه، ويطوف بنا فى أرجاء فاس القديمة وأختها الجديدة التى بناها بجوارها أول السلاطين المرينيين يعقوب بن عبد الحق، وكيف استدار من حول المدينتين سور جعلهما مدينة واحدة. وقد بنى ابن هذا السلطان مدينة البصرة على مسافة ٨٠ ميلا من فاس إلى الشمال الغربى وعلى مسافة ١٥ ميلا جنوبى مدينة القصر الكبير فى منطقة أزغار وكان الأدارسة-فى أثناء حكمهم-يتخذونها مقرهم الصيفى. ونمضى إلى زمن المرابطين فيؤسس يوسف بن تاشفين أمير المسلمين مدينة مراكش الكبرى وهى مثل فاس تعد من المدن الرئيسية فى العالم، شيّدها يوسف وفق مخططات وضعها مهندسون مهرة، وكان لها أربعة وعشرون بابا وجدار سور غاية فى الجمال والمناعة كما يقول الوزان. ويصف جامعها الكبير وتزيين يعقوب المنصور الموحدى له بأعمدة جلبها من إسبانيا، ويطيل فى وصف منارته التى شيدها له يعقوب، وقد باعت زوجته حليّها الذهبية الخاصة والفضية وما تملك من أحجار كريمة وما قدمه لها يعقوب عند زواجه منها لصنع ثلاث تفاحات ذهبية توضع فوق قمة المنارة زينة لها، ويطيل الوزان فى وصف قصبة مراكش. ويذكر أن الخليفة يعقوب المنصور بنى فيها اثنا عشر قصرا متقنة البنيان والزخرفة لحرسه وحاشيته ولحفظ السلاح ولأبنائه ولتعليمهم، وكان بجانب هذه القصور-كما مر بنا-بستان وحديقة حيوان. وبنى يعقوب المنصور أيضا ثلاثة مدن، هى القصر الكبير والقصر الصغير فى منطقة أزغار ومدينة الرباط العاصمة الحالية للمغرب الأقصى. وبناء هذه المدن وما دخل عليها من إضافات كان يستلزم آلافا من العمال والمهندسين والبناءين والحدادين والنجارين والزواقين المزينين للمبانى بالفسيفساء وبأعمدة الرخام والدعائم المقوسة والخشب المزخرف بالنقوش والأصباغ والألوان البديعة.
وهذه الأعمال المعمارية الضخمة وما استلزمت من صناعات وصناع وما سبقها مما اقتبسته عن الحسن الوزان من الصناعات اليدوية التى كانت منبثة فى أرجاء المغرب الأقصى والصيد والإنتاج الزراعى المتنوع الوافر، كل ذلك أعدّ لتجارة نشيطة واسعة منذ القدم، فقد كان الفينيقيون يتبادلون سلعهم مع المغرب الأقصى فى المدن التى أنشئوها على سواحله الشمالية والغربية، وخلفهم الرومان يصنعون نفس الصنيع، وربما عبرت قوافل تجارهما إلى السودان.