فضلا عمن كان منهم يتولى منصب قاضى القضاة، إذ الناس على دين ملوكهم، ولعل خير مثال لقاضى القضاة الظاهرى يوضح ما نزعم أحمد بن عبد الرحمن بن مضاء قاضى القضاة أو رئيسهم فى عهد المنصور يعقوب، فإنه فجّر-على هدى المذهب الظاهرى فى الفقه-أكبر ثورة على سيبويه ونحاة المشرق بكتابه:«الرد على النحاة» إذ صوّب فيها سهامه على نظرية العامل التى تعد الأساس الذى أقام عليه النحاة بناء النحو مقدّرين أن العامل هو الذى يصنع الظواهر النحوية من رفع ونصب وجر وهو الذى يترتب عليه ما لا يكاد يحصى من تقديرات وتعليلات وأقيسة مع ما يضاف إلى ذلك من تمرينات افتراضية. وابن مضاء فى هذه الثورة على النحو وقواعده متأثر فى ذلك كله-كما قلت فى تحقيق الكتاب-بالفقه الظاهرى وما ينكره على المذاهب الفقهية المشهورة من الاعتماد على الأقيسة والتعليلات مما أدى فى التشريع- كما أدى فى النحو-إلى ركام هائل من الافتراضات.
وإنما سقت ذلك لأدل على أن دولة الموحدين كانت جادة فى اعتناق المذهب الظاهرى وكان قضاة القضاة جادين معها فى هذا الاعتناق حتى أن قاضيا منهم يريد أن يطبقه على علم النحو وقواعده. وبالمثل كان كثير من القضاة أنفسهم يعتنقون هذا المذهب، غير أن كتب التراجم-كما قلت-لا توضح ذلك، وأنا أعرض طائفة من فقهاء العصر، محاولا أن أتبين الظاهريين بينهم، وأول من نقف عنده ابن الرمامة المتوفى سنة ٥٦٧ هـ/١١٧١ م وهو من قلعة بنى حماد استوطن مدينة فاس، واشتهر فضله فاستخلصه على بن يوسف بن تاشفين لنفسه، واستخدمه قاضيا لنفسه وطالت حياته حتى لحق عصر الموحدين، وكان شافعى المذهب فلم يكن ظاهريا ولا مالكيا. ونلتقى بعبد الرحيم بن عمر الحضرمى الفاسى المتوفى سنة ٥٨٠ هـ/١١٨٤ م وكان فقيها مالكيا كما ينص على ذلك ابن عبد الملك المراكشى، وكان من أهل التقوى وألف كتابا فى المذهب المالكى.
ويلقانا بعده عمر بن عبد الله بن صمع القرشى المتوفى سنة ٥٩٨ هـ/١٢٠١ م، روى عن كثيرين من بينهم ابن مضاء قاضى القضاة الظاهرى، ويقول ابن عبد الملك إنه صنف فى شواذ المذهب المالكى مصنفا، ولا ندرى هل كان مالكيا أو كان ظاهريا ينتقد مذهب مالك. وكان يعاصره على بن خيار الفاسى المتوفى سنة ٦٠٥ هـ/١٢٠٨ م وكان فقيها محدثا مشاورا (أى مما يرجع إليه القضاة فى الفتوى) ويقول ابن عبد الملك إنه كان رافضا التقليد ميالا إلى النظر والاجتهاد متفننا أى أنه كان متصفا بنفس الصفات التى يدعو إليها المذهب الظاهرى وأنصاره مما يؤكد أنه كان ظاهريا.
ونلتقى بعده بأبى عبد الله بن الصيقل المار ذكره بين المحدثين وقد تقلد منصب قاضى القضاة بعد ابن مضاء إلى أن توفى سنة ٦٠٨ هـ/١٢١١ م وخلفه فى منصبه الفقيه ابن دافال موسى بن