للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وتالله مالى بعد عيشك لذة ... ولا راقنى مرأى لعينى رائق

فإن ألتفت فالشخص للعين ماثل ... وإن أستمع فالصوت للأذن طارق

وإن تقرع الأبواب راحة قارع ... يطر عندها قلب لذكرك خافق

فيا واحدا قد كان للعين نورها ... وكلّ ضياء بعد بعدك غاسق (١)

وهو يبكى ابنه، يقول شباب هلك شابت عليه الرءوس وغصن ذبل كانت الحدائق النضرة تتوق إليه، وكان الناظرون قد راقهم شبابه وذكاؤه، وكأنما رمته سهام للعيون سريعة النّيل ممن ترميه ويقول له إننى لا أستطيع فيك صبرا، وإن الحزن فيك لا يفارقنى، ولم أعد أجد فى عيش بعدك لذة ولا عاد يروقنى شئ يعجب العين. وإنك لتملأ كل ما حولى، فإن ألتفت أشعر كأن شخصك ماثل أمامى، وإن أستمع أشعر كأننى أستمع صوتك، وإن يقرع الأبواب أحد أشعر كأنك أنت الذى يقرعها فيخفق قلبى ويطير، كأنه يريد أن يلقاك. ويقول إنه كان نور عينه، فأصبح كل شئ بعده مظلما لا يراه. ويقول أبو بكر بن شبرين السبتى المتوفى سنة ٧٤٧ للهجرة يؤبن العالم الجليل مواطنه ابن هاني وقد استشهد فى حصار جبل طارق سنة ٧٣٣ هـ‍/١٣٣٣ م (٢):

قد كان ما قال البريد ... فاصبر فحزنك لا يفيد

أودى ابن هاني الرّضا ... فاعتادنى للثّكل عيد

بحر العلوم وصدرها ... وعميدها إذ لا عميد

قد كان زينا للوجو ... د ففيه قد جمع الوجود

العلم والتحقيق وال‍ ... توثيق والحسب التّليد

أودى شهيدا باذلا ... مجهوده نعم الشهيد

فلئن بليت فإنّ ذك‍ ... رك فى الدّنا غضّ جديد

وتعهّدتك من المهي‍ ... من رحمة أبدا وجود

وهو يخاطب نفسه قائلا: قد كان حقا ما قال البريد من استشهاد ابن هاني، فلتصبر، فالحزن لا يفيد فقد استشهد ابن هاني الذى كان تمثالا للرضا والقناعة، فنزل بى من فقده ما يعتادنى من فقد الإخوان والأحباب من حزن، ولقد كان للعلوم بحرا لا يسبر غوره وإماما أو عميدا لا يماثله عميد، بل لقد كان زينا للوجود جميعه، وكأنما جمع فيه الوجود ما شئت من علم وتحقيق وكتابة للوثائق الشرعية مع الحسب القديم الأصيل، وقد توفى شهيدا باذلا


(١) غاسق: مظلم.
(٢) النبوغ المغربى ٣/ ٢٧٧ والوافى ٢/ ٤٥٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>