للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويلى ذلك مشهد السمينة والنحيفة أو بعبارة أدق مناظرتهما، وتقول السمينة لصاحبتها إنك منقوضة اللحم إذ حرّم عليك كما حرّم على بنى إسرائيل الشحم، وتقول لها النحيفة إن قلبها بالعلف هائم، كما تفعل البهائم. ونقرأ مناظرة العربية البدوية والجارية الحضرية ومما تقوله الجارية العربية: نحن ربّات القلوب، ومنتهى غاية كل مطلوب، جمالنا أبدع جمال، ولساننا أفصح لسان. ومما تقوله الحضرية: إن رعيان الجمال لا يفتخرون بحسن ولا جمال.

إلا إنما الحسن حسن الحضر ... علينا ومنا وفينا ظهر

وتناظرت العجوز والصبية، وكانت العجوز مخضوبة البنان، وليس لها أسنان، وبدأت كلامها بقولها: «الحمد لله راحم الشيب، وساتر العيب» ومما قالته الصبية للعجوز: «أما رأيت شعرى الفاحم، وثغرى الباسم، وغصنى الناعم». وقالت لها العجوز: «بورك فيك من صبية، وفى ألفاظك الزكية». واستدار الجوارى حول العجوز، فقالت لهن: «سأقول بينكن مقالة إنصاف، يقتضيها الحق وجميل الأوصاف» وقالت لكل منهنّ كلمة أرضتها، وبذلك ارتفع بينهن العتاب واللوم. وإذا كان عبد المهيمن الحضرمى لم يحاول أن يحاكى بديع الزمان ولا الحريرى فى مقاماتهما فإن مقامته تعدّ طرفة أدبية بديعة.

ونلتقى فى العصر السعدى بمحمد بن عيسى المتوفى سنة ٩٩٩ هـ‍/١٥٩١ م، وله مقامة نقدية عرض فيها طائفة من أدباء زمنه، وعادة يسأل أين الأديب فلان؟ ويجيب بسطور مسجوعة منوها بأدبه، وقد يكون السؤال عن مفت أو فقيه ويجيب، ونذكر لذلك مثلا إذ يقول (١):

«قلت: وأين الكاتب الأديب أبو العباس الغرديس، فقال: الدر النفيس. . ووارث المجد الذى له التهويم (٢) والتعريس، فعل سؤدده غير مقيس، فهو والسيادة سليمان وبلقيس، وإنه اليوم بفاس دار قراره، ومشرق أنواره، ومنبت رنده وعراره (٣)، فلا تسل عن النبيه والنباهة. والفضل هناك الحب الوضّاح، والمجد الصّراح، والأدب المزرى بالراح، ممزوجا بالماء القراح، ينظم وينثر، وعلى كل ما يشاء الخاطر عنده يعثر».

وعلى هذا النمط نعوت دائما مسجوعة تضاف للشخص تنويها به وثناء عليه، وهى بذلك لا تعد مقامة إنما هى مقال عن بعض أدباء عصره وعلمائه. وأسلوب عبد المهيمن الحضرمى السابق فى مقامته القائم على المناظرة والمفاخرة شاع بين الكتاب المصريين فى زمن المماليك وشاع معه المفاخرة والمناظرة بين الأزهار فى ضروب من السفسطة والمغالطة وقلب المحاسن


(١) انظر فى هذه المقامة كتاب الوافى بالأدب العربى فى المغرب الأقصى ٣/ ٦٩٩.
(٢) التهويم: النوم الخفيف ولعله يريد الارتحال. التعريس: الإقامة.
(٣) الرند والعرار: من أزهار البوادى.

<<  <  ج: ص:  >  >>