الغريب. ووجدهم فى كل بلدة يتخذون لهم رئيسا كما يتخذون مقرّا يتعاونون فيه على البر بالضيف وإكرامه، وكان هذا النظام للفتوة هناك يسمّى «الأخيّة» ويصفه قائلا:
ذكر الأخيّة الفتيان: واحد الأخيّة أخى على لفظ الأخ إذا أضافه المتكلم إلى نفسه، وهم بجميع البلاد التركمانية الرومية، فى كل بلد ومدينة وقرية، ولا يوجد فى الدنيا مثلهم أشد احتفالا بالغرباء من الناس وأسرع إلى إطعام الطعام وقضاء الحوائج والأخذ على أيدى الظّلمة. والأخى عندهم رجل يجتمع أهل صناعته وغيرهم من الشبان الأعزاب والمتجرّدين ويقدمونه على أنفسهم، وتلك هى الفتوة. ويبنى زاوية ويجعل فيها الفرش والسّرج وما يحتاج إليه من الآلات، ويخدم أصحابه بالنهار فى طلب معايشهم، ويأتون إليه بعد العصر بما يجتمع لهم، فيشترون به الفواكه والطعام إلى غير ذلك مما ينفق فى الزاوية، فإن ورد فى ذلك اليوم مسافر على البلد أنزلوه عندهم. وكان ذلك ضيافته لديهم، ولا يزال عندهم حتى ينصرف. وإن لم يرد وارد اجتمعوا على طعامهم، فأكلوا وغنّوا ورقصوا، وانصرفوا إلى صناعتهم بالغدوّ (صباحا) وأتوا بعد العصر إلى مقدّمهم بما اجتمع لهم، ويسمّون الفتيان، ويسمى مقدمهم- كما ذكرنا-الأخى. ولم أر فى الدنيا أجمل أفعالا منهم، ويشبههم فى أفعالهم أهل شيراز وأصفهان (فى غربى إيران) إلا أن هؤلاء أحبّ فى الوارد والصادر، وأعظم إكراما وشفقة. وفى اليوم الثانى من يوم وصولنا. . أتى أحد هؤلاء الفتيان إلى الشيخ شهاب الدين الحموى (رفيق لابن بطوطة) وتكلم معه باللسان التركى، ولم أكن يومئذ أفهمه (إذ تعلّمه فيما بعد) وكان عليه أثواب خلقة، وعلى رأسه قلنسوة لبد (صوف) فقال لى الشيخ أتعلم ما يقول الرجل فقلت: لا أعلم ما قال، فقال لى: إنه يدعوك إلى ضيافته أنت وأصحابك فعجبت منه وقلت له: نعم. فلما انصرف قلت للشيخ: هذا رجل ضعيف ولا قدرة له على تضييفنا ولا نريد أن نكلفه، فضحك الشيخ، وقال لى هذا أحد شيوخ الفتيان الأخيّة، وهو من الخرّازين (إسكافى) وفيه كرم نفس وأصحابه نحو مائتين من أهل الصناعات قد قدّموه على أنفسهم، وبنوا زاوية للضيافة، وما يجتمع لهم بالنهار ينفقونه بالليل. فلما صلّيت المغرب عاد إلينا ذلك الرجل وذهبنا معه إلى زاويته، فوجدناها زاوية حسنة مفروشة بالبسط الرومية الحسان، وبها الكثير من ثريّات الزجاج العراقى، وفى المجلس خمسة من البياسيس، والبيسوس شبه المنارة من النحاس، وله أرجل ثلاث، وفى وسطه أنبوب للفتيلة، ويملأ من الشّحم المذاب، وإلى جانبه آنية نحاس ملأى بالشحم وفيها مقراض لإصلاح الفتيل، وأحدهم موكّل بها، ويسمّى عندهم الجراغجى. وقد اصطفّ فى المجلس جماعة من الشبان، لباسهم الأقبية وفى أرجلهم الأخفاف (جمع خفّ) وكل واحد منهم متحزم، وعلى وسطه سكين فى طول ذراعين، وعلى رءوسهم قلانس بيض من الصوف، بأعلى كل قلنسوة قطعة موصولة بها فى