طول ذراع وعرض إصبعين، فإذا استقرّ بهم المجلس نزع كل واحد منهم قلنسوته ووضعها بين يديه، وتبقى على رأسه قلنسوة أخرى من الزردخانى (ضرب من الحرير) وسواه حسنة المنظر، وفى وسط مجلسهم شبه مرتبة موضوعة للواردين. ولما استقرّ بنا المجلس عندهم أتوا بالطعام الكثير والفاكهة والحلواء، ثم أخذوا فى الغناء والرقص فراقنا حالهم، وطال عجبنا من سماحتهم وكرم أنفسهم، وانصرفنا عنهم آخر الليل».
وبهذا الأسلوب المرسل فى حبكة السرد ودقة الوصف تتميز كتابة ابن بطوطة فى رحلته، ويقول إنه كان بعد ضيافته فى هذه الزاوية كلما نزل من بلاد الأناضول سأل عن الأخيّة، وأحيانا كانوا لا ينتظرون حتى يسأل عنهم، بل يسرعون إليه، وتتعارك جماعاتهم عليه. ويذكر صناعاتهم وحاكم كل بلدة ومن حوله من الفقهاء والعلماء وما منحه من الهدايا والصلات، ودائما-كعادته فى كل بلدة نزلها-يذكر حكايات النسّاك ومن فيها من أصحاب الكرامات المسمون بالأولياء. وينتقل إلى شبه جزيرة القرم وبلدان مغول القفجاق وسلطانها: محمد أوزبك وذهابه لزيارته فى عاصمته «السرا» شمالى بحر خوارزم وكان معسكرا بجيشه قريبا منها، وركب إليه مع حاكم شبه جزيرة القرم عربة تجرها الجياد «وعلى العربة شبه قبة من قضبان خشب مربوط بعضها إلى بعض بسيور جلد رقيق، وهى خفيفة الحمل وتكسى باللبد (الصوف) أو الملف (الجوخ)، وفيها طيقان مشبكة ويرى الذى بداخلها الناس ولا يرونه، ويتقلب فيها كما يحب، وينام، ويأكل، ويقرأ، ويكتب وهو فى حال سيره».
ووصل إلى معسكر السلطان وقال إنه يشبه مدينة عظيمة تسير بأهلها، ففيه المساجد والأسواق والمطابخ، وكل ذلك تحمله وتجره العربات. ودخل على السلطان محمد أوزبك فأكرمه. ويعده من أعاظم ملوك الدنيا، ويصف مجلسه الذى كان يتخذه فى كل يوم جمعة بعد الصلاة يقول:«إنه يجلس فى قبة تسمى قبة الذهب، مزينة بديعة، وهى من قضبان خشب مكسوة بصفائح الذهب، وفى وسطها سرير من خشب مكسو بصفائح الفضة المذهبة وقوائمه فضة خالصة ورءوسها مرصعة بالجواهر، ويقعد السلطان على السرير، وعلى يمينه زوجتان وكذلك على يساره، وكلما جاءت إحداهن قام لها السلطان وأخذ بيدها حتى تصعد على السرير، وهذا كله على أعين الناس دون احتجاب». ويفيض فى الحديث عن كل زوجة وجواريها، ومماليكها وما أهدينه. ويعرف السلطان رغبته فى زيارة بلدان البلغار فيرسل معه من يهديه الطريق، وحاول أن يدخل فى إقليمى ويسوا ويورا (روسيا) فى شمال البلغار حتى المحيط المتجمد الشمالى ويسميها أرض الظّلمة. ويعدل عن ذلك لعظم المئونة. ومن طريف ما قاله عنها مما سمعه من الناس: أن السفر إليها لا يكون إلا فى عجلات صغار تجرّها كلاب كبار، فإن تلك المفازة فيها الجليد فلا يثبت فيها قدم الآدمى ولا حافر الدابة، والكلاب