للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فى استشارة أصحابه فى كل مهمّ، وكل ما يجدّ من تشريع، وخاصة فى معاملة الأمم المفتوحة. وكان هذا بدوره عاملا من عوامل نمو الخطابة فى العصر.

إذ كان الحكم ديمقراطيّا، وكان من حق كل شخص أن يخطب مصوّرا وجهة نظره. وفسح عمر لخطابة الوفود فى مجالسه، تستميح لأقوامها وتذكر حاجتها، واشتهر الأحنف بن قيس سيد تميم وأحد قواد الفتوح بغير خطبة ألقاها بين يديه (١).

ولم تقف الخطابة الدينية فى هذا العصر عند الجزيرة. فقد أخذت تحلّ مع المسمين فى كل بلد فتحوها، وكان هذا بدون شك عاملا من عوامل نموها، إذ تكاثر من يردّدونها ومن يحسنون حوكها وصياغتها مستلهمين القرآن الكريم وخطابة الرسول فيما يعظون الناس به من مواعظ حسنة، على نحو ما أثر عن عبد الله بن مسعود فى إحدى مواعظه، وفيها يقول لأهل الكوفة (٢):

«أصدق الحديث كتاب الله، وأوثق العرى كلمة التقوى، وخير الملل ملّة إبراهيم، وأحسن السّنن سنة محمد صلى الله عليه وسلم، وشرّ الأمور محدثاتها، وخير الأمور عزائمها، ما قلّ وكفى خير مما كثر وألهى. . . خير الغنى غنى النفس. الخمر جمّاع الآثام. . . أعظم الخطايا اللسان الكذوب.

سباب المؤمن فسق، وقتاله كفر، وأكل لحمه معصية. . . مكتوب فى ديوان المحسنين من عفا عفى عنه. السعيد من وعظ بغيره. . . أحسن الهدى هدى الأنبياء».

وفى هذين الاتجاهين الكبيرين من المواعظ والحضّ على الجهاد مضت الخطابة طوال عصر عمر والسنوات الأولى من خلافة عثمان، حتى إذا أشعل الثوار عليه فى الكوفة ومصر نار الفتنة أخذت الخطابة فيها مكانها، إذ وقف أمثال الاشتر النخعى فى الكوفة ومحمد بن أبى بكر فى مصر يؤلبون الناس عليه. وتتوالى الحوادث، ويقتل عثمان، ويتولّى على بن أبى طالب مقاليد الخلافة، وتجتمع السيدة عائشة وطلحة والزبير، ويقررون الخروج عليه. ويقصدون البصرة، ويستجيب أهلها لهم. فيضطرّ على إلى أن يتبعهم، وينزل الكوفة، وتكون موقعة الجمل


(١) انظر البيان والتبيين ٢/ ١٤٤.
(٢) البيان والتبيين ٢/ ٥٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>