للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويحاول علىّ وعبد الله بن العباس أن يردّاهم إلى سواء السبيل، فتقوم بينهما وبينهم مناظرات فى مسألة التحكيم يكون عمادها الجدل المستمدّ من نصوص القرآن والحديث، وبذلك يعرف هذا العصر المناظرة الشفوية، بل إنها لتتفجّر تفجرا. ونحن نورد طرفا من مناظرة ابن عباس لهم مما احتفظ به الطبرى، وهو يجرى على هذه الصورة (١):

«راجعهم ابن عباس، فقال: ما نقمتم من الحكمين، وقد قال الله عزّ وجل: {(إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما)} (٢) فكيف بأمة محمد صلى الله عليه وسلم؟ . فقالت الخوارج: قلنا أمّا ما جعل حكمه إلى الناس وأمر بالنظر فيه والإصلاح له فهو إليهم كما أمر به، وما حكم فأمضاه فليس للعباد أن ينظروا فيه، حكم فى الزانى بمائة جلدة وفى السارق بقطع يده، فليس للعباد أن ينظروا فى هذا. قال ابن عباس: فإن الله عز وجل يقول: {(يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ»} (٣). فقالوا له: أو تجعل الحكم فى الصيد والحدث يكون بين المرأة وزوجها كالحكم فى دماء المسلمين؟ ! . وقالت الخوارج: قلنا له: فهذه الآية بيننا وبينك، أعدل عندك ابن العاص وهو بالأمس يقاتلنا ويسفك دماءنا فإن كان عدلا فلسنا بعدول ونحن أهل حربه، وقد حكّمتم فى أمر الله الرجال، وقد أمضى الله عزّ وجلّ حكمه فى معاوية وحزبه أن يقتلوا أو يرجعوا (٤) وقبل ذلك ما دعوناهم إلى كتاب الله عزّ وجل فأبوه. ثم كتبتم بينكم وبينه كتابا، وجعلتم بينكم وبينه الموادعة والاستفاضة (٥). وقد قطع عزّ وجلّ الاستفاضة والموادعة بين المسلمين وأهل الحرب منذ نزلت براءة إلا من أقرّ بالجزية».

ولما لم يسمع الخوارج ولم يطيعوا اضطرّ علىّ إلى حربهم، وفتك بهم فتكا ذريعا فى موقعة النهروان. وكانوا يظهرون استبسالا شديدا، يدفعهم إلى ذلك


(١) الطبرى ٤/ ٤٧.
(٢) الآية فى الصلح بين الزوجين وتمامها: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما).
(٣) الآية فى حكم قاتل الصيد وهو محرم، وتمامها: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ).
(٤) يشير الخوارج إلى قوله تعالى: (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اِقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ).
(٥) الاستفاضة: الموادعة.

<<  <  ج: ص:  >  >>