للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

منارات فى موعظته، يستمد من إشعاعاتها ما يضئ به كلامه. بل إن وراء هذه المنارات منارات أخرى من هدى القرآن، بحيث نستطيع أن نرد كل موعظته إلى ينابيع الضوء التى تفجرت منها، إذ كانت تسيل فى نفسه، بل كانت تشع بمعانى نورها، كما يشع نور الشمس فى السماء. وكان أحيانا ينتقل فى سرعة من مثل هذا الوعظ ومعانيه الروحية إلى تشريعات يتمّ بها قيام هذا المجتمع الإسلامى ويسود على كل ما حوله، تشريعات قوامها مصلحة الجماعة وأن يعيش المسلم متعاونا متضامنا فى سبيل الخير، وهو خير تطبع عليه الجنة بنعيمها الخالد، خير يكفل سعادة البشرية، ومن أروع ما يصور ذلك خطبته عليه السلام فى حجّة الوداع، وهى تجرى على هذا النمط (١):

«الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضلّ له. ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله.

أوصيكم-عباد الله-بتقوى الله، وأحثّكم على طاعته، وأستفتح بالذى هو خير. أما بعد أيها الناس! اسمعوا منى أبيّن لكم، فإنى لا أدرى لعلى لا ألقاكم بعد عامى هذا فى موقفى هذا. أيها الناس! إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام، إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا، فى شهركم هذا، فى بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد. فمن كانت عنده أمانة فليؤدّها إلى الذى ائتمنه عليها. وإن ربا الجاهلية موضوع (٢)، وإن أول ربا أبدأ به ربا عمى العباس ابن عبد المطلب. وإن دماء الجاهلية موضوعة، وأول دم أبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب. وإن مآثر الجاهلية موضوعة، غير السّدانة (٣) والسّقاية (٤). والعمد قود (٥)، وشبه العمد ما قتل بالعصا والحجر وفيه مائة بعير، فمن زاد فهو من أهل الجاهلية. أيها الناس! إن الشيطان قد يئس أن يعبد فى أرضكم هذه، ولكنه قد رضى أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون


(١) البيان والتبيين ٢/ ٣١ وانظر السيرة النبوية لابن هشام (طبعة الحلبى) ٤/ ٢٥٠ والعقد الفريد ٤/ ٥٧.
(٢) موضوع: ساقط ومحرم.
(٣) السدانة: خدمة الكعبة.
(٤) السقاية: سقاية الحجاج.
(٥) العمد: القتل المتعمد. القود: قتل القاتل بمن قتل.

<<  <  ج: ص:  >  >>