للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لمأكلة ولا يتعرضوا لرهبان النصارى، وتصوّر ذلك كله وصيته لجيش أسامة بن زيد حين سيّره إلى مشارف الشام، وفيها يقول (١):

«أيها الناس! قفوا أوصيكم بعشر، فاحفظوها عنى: لا تخونوا ولا تغلّوا (٢)، ولا تغدروا، ولا تمثّلوا، ولا تقتلوا طفلا صغيرا ولا شيخا كبيرا ولا امرأة، ولا تقعروا (٣) نخلا، ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرا إلا لمأكلة. وسوف تمرون بأقوام قد فرّغوا أنفسهم فى الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له».

وواضح مما تمثلنا به من خطابة أبى بكر أنه لم يكن يلهج بسجع، إنما كان يلهج بكلم فصيح جزل واضح الدلالة عما فى نفسه. وكان يتخيّر لفظه، وربما كان من الأدلة على ذلك ما يروى من أنه عرض لرجل معه ثوب، فقال له: أتبيع الثوب؟ فأجابه: لا، عافاك الله. فتأذى أبو بكر مما يوهمه ظاهر اللفظ إذ قد يظنّ أن النفى مسلط على الدعاء، فقال له: لقد علمتم لو كنتم تعلمون، قل: لا، وعافاك الله» (٤).

وكان من صواب رأيه وصحة فراسته اختياره عمر خليفة من بعده، وكان على شاكلته نفاذ بصيرة وصدق عزم وبلاغة لسان، كما كان صفىّ رسول الله.

وقد أعزّ الله به الإسلام فى مكة حين أعلن ولاءه لرسوله، وما زال منقطعا إليه والرسول يقرّ به منه ويتخذه موضع مشورته، حتى توفّى وخلفه أبو بكر، فكان له نعم الظّهير والمعين. ولما أسندت إليه مقاليد الخلافة نهض بها فى رجاحة عقل، حتى إن أحدا لم يردّ عليه رأيا واحدا ولا عملا واحدا، وما زال يوطّئ الأمر بسعة حلم وشدّة عزم، مجندا للأجناد، حتى فتحت فارس وتمّ فتح الشام وفتحت مصر، وهو على ذلك كله نعم الكالئ والحافظ لرعيته. وكان بيانه فى مقدار عقله قوة وسدادا، إذ كان فى مرتبة رفيعة من البلاغة والفصاحة، حتى قالوا إنه كان يستطيع أن يخرج الضّاد من أى شدقيه شاء (٥)، فما هو إلا


(١) الطبرى ٢/ ٤٦٣.
(٢) تغلوا: تخونوا فى الفئ.
(٣) تقعروا: تستأصلوا وتقطعوا.
(٤) البيان والتبيين ١/ ٢٦١.
(٥) البيان والتبيين ١/ ٦٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>