للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ليسوا صادقين فيما يظهرون من تقوى وصلاح، على شاكلة قول ذى الرمة ساخرا من إحدى طوائفهم (١):

أما النبيذ فلا يذعرك شاربه ... واحفظ ثيابك ممن يشرب الماء

قوم يوارون عما فى صدورهم ... حتى إذا استمكنوا كانوا هم الداء

مشمّرين إلى أنصاف سوقهم ... هم اللصوص وهم يدعون قرّاء

ولعلنا لا نبعد إذا قلنا إن شعر الحماسة كأن أقوى فى تأثره بالإسلام من شعر الهجاء والمديح، إذ كان ينظّم أكثره فى الجهاد، ومعروف أنه كان دائما فى صفوف المحاربين قصّاص ووعاظ يحثّونهم على الاستشهاد فى سبيل الله، حتى يفوزوا برضوانه، ومن ثمّ تحولت بعض القطع الحماسية التى نظمت فى خراسان إلى مواعظ خالصة، كقول نصر بن سيّار (٢):

دع عنك دنيا وأهلا أنت تاركهم ... ما خير دنيا وأهل لا يدومونا

واكثر تقى الله فى الأسرار مجتهدا ... إن التّقى خيره ما كان مكنونا

واعلم بأنك بالأعمال مرتهن ... فكن لذاك كثير الهمّ محزونا

وامنح جهادك من لم يرج آخرة ... وكن عدوّا لقوم لا يصلّونا

فاقتلهم غضبا لله منتصرا ... منهم به، ودع المرتاب مفتونا

وواضح أن نصرا يزهد فى الدنيا ومتاعها الفانى بما يذكر من هلاك الأهل، ويدعو إلى التقوى فى السر والخلفاء مذكّرا باليوم الآخر وما ينبغى أن يتّخذ له من ذخر الجهاد والذبّ عن دين الله، وبيع النفس فى محاربة أعدائه.

وكانت حرب الخوارج حربا دينية خالصة، أما هم فآمنوا بأنهم على الحق وأن المسلمين من غيرهم خرجوا على حدود الله وأنه ينبغى جهادهم حتى يعودوا إلى حياض الشريعة. وبنفس الصورة كان يراهم المسلمون من خصومهم ويرون جهادهم فرضا مكتوبا. وبذلك كانت أشعار الطرفين تغمس غمسا


(١) ديوان ذى الرمة (طبعة كمبريدج) ص ٦٦١.
(٢) طبرى ٥/ ٤٣٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>