للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإذا ولّينا وجوهنا نحو البصرة والكوفة وجدنا العرب هناك يتحضرون تحضرا واسعا رغم احتفاظهم بعصبياتهم القبلية، إذ ساكنوا الفرس وبقايا الآراميين وخالطوهم، وتحوّلت إليهم كنوز العراق وإيران وما كانوا يفتحونه من خراسان، حتى كان يقسم للفارس الواحد فى بعض الغزوات ثلاثون ألفا من الذهب (١)، ومن يرجع إلى ما كتبه البلاذرى فى فتوح البلدان عن تمصير الكوفة والبصرة تهوله كثرة القطائع التى تملّكها الناس هناك من عرب وموال أمثال مسمار مولى زياد وفيروز حصين وحسّان النبطى. وكانت الحمامات تدرّ فى البصرة لهذا العصر أموالا كثيرة، حتى ليروى أن بعضها كان يغلّ يوميّا ألف درهم، ولم يكن يتملكها العرب وحدهم، بل كان يتملكها أيضا الموالى. ومما يذكره البلاذرى من حماماتهم حمام أعين مولى سعد بن أبى وقاص وحمام فيل مولى زياد وحمام سباه الأسوارى.

ونرى العرب والموالى جميعا يتنافسون بالبصرة فى بناء القصور الفخمة، ويذكر البلاذرى منها قصر زربى مولى عبد الله بن عامر وقصر أبى نافع مولى عبد الرحمن بن أبى بكرة وقصر ابن الأصبهانى وقصر شيرويه الأسوارى الذى سمّى «هزار در» لأنه اتخذ فيه ألف باب. ومما يدلّ على مبلغ التأنق فى بناء هذه القصور ما يروى عن بعض التميميين بالبصرة من أنه طلب إلى معاوية أن يعينه فى بناء داره باثنى عشر ألف جذع (٢)، وكذلك ما يروى من أن عبيد الله بن زياد أنفق على داره هناك التى سماها البيضاء ألف ألف درهم وأنه ملأها بالرياش والطنافس وزخرف حيطانها بتصاوير الحيوانات (٣)، وفى نصوص كثيرة أنهم كانوا يحيطون قصورهم بالحدائق والبساتين (٤).

وتبع ذلك كله الرّفه والترف فى المطعم والملبس، حتى لنرى نفرا من الأتقياء يلبس الديباج والقلانس (٥)، ونراهم يكنون عن هذا التحول فى حياتهم بأنهم


(١) مقدمة ابن خلدون ص ١٤٣.
(٢) طبرى ٤/ ٢٤٦.
(٣) راجع ياقوت فى معجم البلدان تحت كلمة البيضاء وانظر الطبرى ٤/ ٤٠٢.
(٤) انظر الكامل للمبرد ص ٧٨٥ والبيان والتبيين ٢/ ٨٢.
(٥) ابن سعد ٥/ ١٣٩، ٦/ ٢٠٢، ٧ ق ١/ ١٥٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>