للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وفى نفس الوقت نجد الحلفين الكبيرين فى البصرة: حلف تميم وقيس من جهة وحلف الأزد وربيعة واليمنية من جهة أخرى يستشعران العصبية القبلية استشعارا حادّا. ومرّ بنا فى غير هذا الموضع كيف اصطدم الحلفان بعد فرار عبيد الله بن زياد عن العراق، وكيف أفضى الاصطدام إلى القتال، لولا أن تدارك الأمر الأحنف بن قيس فرتق الفتق. وقد ظلت نفوس الحلفين تغلى طوال العصر، وظل الشعراء يتصايحون صياحهم القبلى حتى لنجد أبا نخيلة، وهو ممن أدركوا الدولة العباسية ينظم أرجوزة طويلة يذكر فيها حرب قومه التميميين مع الأزد وربيعة مفاخرا بانتصارهم على شاكلة قوله (١):

نحن ضربنا الأزد بالعراق ... والحىّ من ربيعة المرّاق

ضربا يقيم صعر الأعناق ... بغير أطماع ولا أرزاق (٢)

إلاّ بقايا كرم الأعراق

ولم تحتدم العصبيات القبلية فى البصرة فحسب، فقد انتقلت إلى خراسان لسبب طبيعى، وهو أن أكثر جيوشها كانت تتألف من جند البصرة، إذ هم الذين ابتدءوا فتحها منذ عهد عمر، وتوالت بعد ذلك كتائبهم وفرقهم هناك، فكان طبيعيا أن تنعكس بها نيران هذه العصبيات، وقد أخذت تزداد تأججا واشتعالا بعامل المنافسة على قيادة الجيوش وولاية الثغور، إذ كان الوالى هناك يولّى عماله وقواده من قبيلته وأحلافها، فإذا تولّى المهالبة مثلا قدّموا رجال الأزد وربيعة واليمن وانتكست قيس وتميم، وإذا تولى قتيبة بن مسلم الباهلى مثلا رفعت قيس وتميم رءوسهما وانتكست الأزد وأحلافها. ولم تقف المسألة عند ذلك فإن القبائل فى الحلف الواحد كثيرا ما اختلفت وتحاربت وتطاحنت بسبب الاختلاف على المغانم وطمعا فى اكتنازها، واقرأ فى أى شاعر ممن عاشوا هناك وترجم له صاحب الأغانى فستراه دائما يذود عن قبيلته بلسانه، سواء كان من أصولها أو من مواليها، على نحو ما مرّ بنا من استعار الهجاء بين زياد الأعجم مولى


(١) طبقات الشعراء لابن المعتز (طبع دار المعارف) ص ٦٣.
(٢) الصعر: الميل، وصعر الأعناق كناية عن الكبر والغطرسة، وأصله ميل العنق والنظر عن الناس تهاونا واستكبارا.

<<  <  ج: ص:  >  >>