للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عند الخلفاء والولاة، وهما يرحلان إلى دمشق سويّا، وإذا نزلت بأحدهما شدة أو حزبه أمر وقف الآخر معه يمدّ له يد العون، فإذا طلب جرير لحرب الأزارقة تشفّع له الفرزدق (١)، وإذا هجا الفرزدق خالدا القسرىّ وحبسه تشفع له جرير عنده (٢)، وما يزال به يستعطفه ويسترحمه، لعله يلين له قلبه ويطلقه (٣). ونراه حين يلبّى القدر قبله يرثيه رثاء حارّا بمثل قوله:

ولا حملت بعد الفرزدق حرّة ... ولا ذات حمل من نفاس تعلّت (٤)

هو الوافد المحبوّ والراتق الثّأى ... إذا النّعل يوما بالعشيرة زلّت (٥)

فلم تكن المسألة مسألة هجاء حادّ إنما كانت مسألة مناظرة فنية بالشعر فى عصبيات القبائل والعشائر، على نحو ما كان يتناظر فى عصرنا أصحاب الصحافة الحزبية فى آرائهم السياسية مدافعين مهاجمين، وتظل لهم فى أثناء ذلك صداقتهم.

وواضح مما قدمنا أن نقائض جرير والفرزدق نشأت تلبية لحاجة أهل البصرة إلى ما يسدّ فراغهم ويشغل أوقاتهم، ولم يلبث الشاعران أن حققا لهم كل ما كانوا يبغون من ذلك، إذ تحولا بفن الهجاء القديم إلى هذه النقائض الجديدة التى استضاءا فيها بقدرة العقل العربى الحديثة على الجدال والتوليد فى المعانى. وارجع إلى أى فكرة عندهما كفكرة أن الفرزدق قين أو فكرة ذل بنى كليب فسترى كلا منهما يعرض الفكرة التى يقف عندها فى صور كثيرة، إذ ما يزال يولّد فيها، وما يزال يستنبط ويفرّع ويشعّب، وكأنما يريد أن لا يبقى فيها بقية. وانظر فى أى نقيضة يردّ بها أحدهما على خصمه، فستراه يقف بإزاء كل بيت قاله صاحبه ويردّ عليه صنع المتناطرين من أهل اللّدد والخصومة فى المسائل العقيدية، فهو يحاول جاهدا أن يبطل كل فكرة اعتمد عليها صاحبه فى هجائه وأن ينقضها نقضا. ومن ثمّ كنا نرى أن نقائض جرير والفرزدق فن جديد، وهى ككل فن يتصف بهذه الصفة، سبقتها مقدمات فى العصور


(١) أغانى (ساسى) ١٩/ ٢٨.
(٢) أغانى ١٩/ ٤٢.
(٣) الديوان ص ١٧٨.
(٤) تعلت: تطهرت.
(٥) الثأى: الفساد والضعف. زلت: عثرت.

<<  <  ج: ص:  >  >>