ويظهر أنه لم يكن يقيم بدمشق طويلا، فقد كان يفد عليها وفودا، وسرعان ما يعود إلى منازل قومه فى الجزيرة، يدلّ على ذلك أكبر الدلالة أننا نجده فى الفترة التى احتدمت فيها المعارك بين تغلب وقيس واقفا فى صفوف قومه يناضل عنهم الراعى وابن الصّفّار المحاربى وابن الصّعق وغيرهم من شعراء قيس.
ومرّ بنا أن القبائل اليمنية فى الشام وعلى رأسها كلب بايعت مروان بن الحكم. بينما نشزت عليه القبائل القيسية إذ كان هواها مع ابن الزبير، وسرعان ما اصطدم الطرفان فى موقعة مرج راهط. وانتصرت كلب وأخواتها انتصارا حاسما. وكانت تغلب قد أعانتها فى تلك الموقعة، ومضت تعلن ولاءها لمروان ثم لابنه عبد الملك، وأخذت تتحرش بها قيس فى الجزيرة، فنشبت بينهما سلسلة معارك حمى فيها وطيس الحرب، وأشرعت فيها ألسنة الشعراء على نحو ما أشرعت أسنة الشجعان، وكان الأخطل أهم لسان أشرع فى تغلب على نحو ما أسلفنا فى الحديث عن نقائضه.
وما زال عبد الملك يستنزل زفر بن الحارث وغيره من زعماء قيس، ليأمن طريقه إلى مصعب بن الزبير. ويذعنون ويدخلون فى طاعته، فتهدأ الحروب الناشبة بين قيس وتغلب، وتمر بهما فترة سلام. ويعود عبد الملك إلى دمشق مظفّرا، ويحاول فى سنة ٧٣ أن يصلح بين الفئتين، فيستقدم زعماءهما إلى دمشق ويختصمون عنده، ويلمع اسم الأخطل فى هذا الاختصام، إذ يدخل على عبد الملك بن مروان وعنده الجحّاف السّلمىّ، فينشد:
ألا سائل الجحّاف هل هو ثائر ... بقتلى أصيبت من سليم وعامر
أجحاف إن نهبط عليك فتلتقى ... عليك بحور طاميات الزواخر
ووثب الجحاف يجرّ مطرفه غضبا، وذهب توّا إلى قومه فى الجزيرة، فجمع فرسانهم وأغار بهم على تغلب ليلا فقتل فيها مقتلة عظيمة، وبقر من النساء من كانت حاملا. ومن كانت غير حامل قتلها. وتسمى تلك المعركة معركة «البشر» باسم جبل وقعت بجواره. وقد قتل فيها ابن للأخطل، ووقع هو نفسه أسيرا، غير أنه ضلّل من أسروه إذ قال لهم إنه عبد، فأطلقوه. وهرب