للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الجحاف بعد تلك الوقعة إلى الروم، إلى أن سكن غضب عبد الملك وأمّنه، فعاد على أن يؤدّى الحمالات عما سفك من دماء. ونرى الأخطل يتضوّر من هذه الوقعة تضورا شديدا، حتى لنراه يهدد بنى أمية بانصراف تغلب عنهم، إن لم يأخذوا لهم بثأرهم، يقول:

لقد أوقع الجحّاف بالبشر وقعة ... إلى الله منها المشتكى والمعوّل

فسائل بنى مروان ما بال ذمّة ... وحبل ضعيف لا يزال يوصّل

فإلا تغيّرها قريش بملكها ... يكن عن قريش مستراد ومزحل (١)

واستطاع عبد الملك أن يرمّ الفتق ويحكم الصلح بين الفئتين. ويعود الأخطل إلى رحابه ويحلّ منه منزلا عليّا، إذ يصبح شاعره الأثير على الرغم من نصرانيته، ويقول الرواة إنه كان يمثل بين يديه «وعليه جبة خزّ وحرز خزّ، فى عنقه سلسلة ذهب، فيها صليب ذهب، تنفض لحيته خمرا (٢)»

وعصر عبد الملك يعدّ العصر الذهبى للأخطل، فقد نزل منه منزلة الشاعر الرسمى للدولة، وآثره على جميع معاصريه من الشعراء، وأمر من يعلن بين الناس أنه شاعر بنى أمية وشاعر أمير المؤمنين، وفى الأغانى أخبار كثيرة تصور ذلك. ونرى مدائح الأخطل لعبد الملك حينذاك تمتلئ بالفخر بقومه وما قدّموا من خدمات لبنى أمية، كما تمتلئ بالدعوة السياسية للأمويين، وهى دعوة ينال فيها من خصومهم أمثال الزبيريين، كما ينال من قيس وشاعرهم جرير، ومن خير ما يصور ذلك قصيدته «خفّ القطين» التى أسلفنا الحديث عنها، وقد أحكم نسجها حتى لتتوهج بعض أبياتها توهجا على مثال قوله فى الأمويين:

حشد على الحق عيّافو الخنا أنف ... إذا ألمّت بهم مكروهة صبروا

وإن تدجّت على الآفاق مظلمة ... كان لهم مخرج منها ومعتصر (٣)


(١) بملكها: بقدرتها. مستراد: مرعى. مزحل: من زحل عن مكانه إذا زال عنه وتنحى.
(٢) أغانى (دار الكتب) ٨/ ٢٩٩.
(٣) تدجت: أظلمت. معتصر: ملجأ.

<<  <  ج: ص:  >  >>