فلما رآه ينافسه نحر إبله كلها فى مكان يسمى صوءر، وقيل إنها كانت مائة، وقيل بل كانت أربعمائة. وافتخر الفرزدق بالحادثين كثيرا فى شعره. ولم يكن يتلفع بالشرف من قبل أبيه وحده فقد كانت أمه من أسرة شريفة من قبيلة ضبة. وكانت له أخت تسمى جعثن، وتصادف أن أحد أشرار بنى منقر رآها فضرب بيده على نحرها. فصرخت ومضى، وقد عيّر جرير الفرزدق بذلك كثيرا حتى لنراه يرميها بالفحشاء افتراء، إذ كانت سيدة فاضلة.
وليس بين أيدينا ما يدل على السنة التى ولد فيها الفرزدق، وأغلب الظن أنه ولد حوالى سنة عشرين للهجرة، ففى أخباره أنه قال «: كنت أهاجى شعراء قومى وأنا غلام فى خلافة عثمان» وخلافته امتدت من سنة ثلاث وعشرين إلى خمس وثلاثين للهجرة. وفى أخباره أيضا أن أباه قدّمه إلى على بن أبى طالب بعد موقعة الجمل سنة ٣٦، وقال له إن ابنى هذا شاعر، فنصحه أن يعلّمه القرآن.
وواضح مما قدمنا أن الفرزدق نشأ فى بيت كريم، مآثره ومفاخره لا تدفع، وكان لذلك أثر عميق فى نفسيته إذ كان يعتدّ بآبائه اعتدادا شديدا، كما كان يعتد بعشيرته وقبيلته، حتى إنه يعدّ أضخم صوت لتميم فى هذا العصر، وجعله ذلك يتمسك بمآثر أهله وكرمهم المسرف، فإذا باع إبله نثر أموالها على الناس، لينتسب فيهم، وظل يجير على قبر أبيه غالب، على نحو ما كان أجداده يجيرون. ولما توفّى صديقه بشر بن مروان نحر ناقته على قبره كما كان يصنع الجاهليون. وأخلاق الفرزدق من هذه الناحية تتصل بالأخلاق الجاهلية، وبكل ما ينطوى فى هذه الأخلاق من إثم، فقد عرف بفسقه وشربه للخمر التى حرّمها الإسلام، وأيضا بكل ما ينطوى فى هذه الأخلاق من عصبية وغلظة.
وهو من هذه الناحية يمثّل البدوى التميمى شديد الشكيمة الذى لا يدين بالطاعة للسلطان، ولعله من أجل ذلك ظل طويلا بعيدا عن قصر بنى أمية فى دمشق، وكأنه كان يحسّ أنه من أسرة لا تقل عن أسرة بنى أمية شرفا وسيادة. ونرى هذا الإحساس واضحا حين ألمّ عم له يسمى الحتات بمعاوية مع وفد من تميم، فقد تصادف أن توفّى قبل مغادرة الوفد دمشق، فأمر معاوية بأخذ ما كان أعطاه من مال، ولم يكد يسمع بذلك الفرزدق حتى نظم قصيدة فى معاوية يقول فيها: