للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأمر خالد صاحب شرطته مالك بن المنذر بن الجارود أن يحبسه، فألقى به فى السجن، فانقلب يستعطف مالكا وخالدا وهشام بن عبد الملك وبعض مقربيه من الكلبيين بمدائح كثيرة، واستعان بخصومه من القيسية وأعانه شاعرهم جرير. وتصادف أن حجّ خالد وأناب عنه أخاه أسدا، فردّ إليه حريته، ومن ثم نراه يمدحه مدائح كثيرة.

وكل شئ يؤكد أنه أناب إلى ربه فى سنيه الأخيرة فقد أخذ يندم على ما اقترف من آثام، ومن خير ما يصور ذلك قصيدته فى إبليس، وفيها يقول:

أطعتك يا إبليس سبعين حجّة ... فلما انتهى شيبى وتمّ تمامى

فررت إلى ربى وأيقنت أننى ... ملاق لأيام المنون حمامى

وأخيرا وافاه القدر سنة ١١٤ للهجرة.

وواضح مما قدمنا أن الفرزدق أمضى حياته فى المديح والهجاء، وهو فى مديحه يتخلف عن الأخطل وجرير جميعا لما قدمناه من خشونة نفسه وصلابتها، وهو كذلك يتخلف عن جرير فى الهجاء، لأن نفس جرير كانت محملة بمرارة مسرفة. إذ لم يكن له ما للفرزدق من شرف المحتد، فكان ينصبّ عليه وعلى غيره من مهجويه كالصقر الجارح. وهذه النفس الخشنة الصلبة للفرزدق جعلته لا يبرع فى الغزل، يقول الجاحظ: «وهذا الفرزدق وكان مستهترا بالنساء وكان زير غوان وهو فى ذلك ليس له بيت واحد فى النسيب مذكور، ومع حسده لجرير. وجرير عفيف لم يعشق امرأة قط وهو مع ذلك أغزل الناس شعرا» (١). وكان جرير يتقدمه كذلك فى الرثاء، إذ كانت نفسه لينة رقيقة. والموضوع الذى يتفوق فيه الفرزدق على الأخطل وجرير، بل على جميع شعراء عصره، هو الفخر، إذ كان يعتدّ بآبائه وقبيلته اعتدادا لاحد له، ومن ثم بلغ فى الافتخار بهما الغاية القصوى على شاكلة قوله:

وكنّا إذا الجبّار صعّر خدّه ... ضربناه حتى تستقيم الأخادع (٢)


(١) البيان والتبيين ١/ ٢٠٨.
(٢) صعر خده: أماله كبرا وغطرسة. الأخادع: جمع أخدع وهو العرق البارز فى صفحة العنق. واستقامة الأخادع كناية عن الخضوع والذل.

<<  <  ج: ص:  >  >>