وواضح أن جريرا كان لا يبارى فى جميع الموضوعات التى تتصل بدقة الأحاسيس ورقة المشاعر، وهو لذلك يسبق الأخطل والفرزدق فى الرثاء والغزل وعواطف الزوجية والأبوة، وهو كذلك يسبقهما فى الهجاء الخالص إذ كان يعرف كيف يريش سهامه ويسدّدها إلى نحور خصومه، محمّلا لها كل ما يمكن من سموم. وليس لأحدهما موضوع يتقدم به عليه سوى ما كان من فخر الفرزدق إذ لم يكن لجرير مادة يبنى منها فخره، إلا أن يرتفع عن عشيرته إلى يربوع أو إلى تميم عامة، حينئذ تندّ عنه أبيات رائعة كقوله:
إذا غضبت عليك بنو تميم ... حسبت الناس كلّهم غضابا
ولكنه على كل حال يقصر عن الفرزدق فى هذا المجال. ومن الحق أن الفرزدق كان نبعا ثرّا من ينابيع الشعر، ولذلك استطاع الصمود لجرير، والأخطل-مع أنه استطاع أن يثبت له-يأتى دون الشاعرين جميعا، إلا ما يسوقه فى النّدرة من قطع مديح متوهجة. وساق نفس هذا الحكم عليهم قديما بشار، فقال حين سأله سائل عنهم:«لم يكن الأخطل مثلهما ولكن ربيعة تعصّبت له وأفرطت فيه» ومضى بفضل جريرا على الفرزدق فقال: «كانت لجرير ضروب من الشعر لا يحسنها الفرزدق، ولقد ماتت النّوار (زوجه) فقاموا ينوحون عليها بشعر جرير؛ إذ لم يجدوا للفرزدق شعرا يصلح. فقال له السائل: وأى شئ لجرير من المراثى إلا التى رثى بها امرأته: أم حزرة، فأورد عليه بشار مرثيته فى ابنه سوادة التى يقول فيها:
فارقتنى حين كفّ الدّهر من بصرى ... وحين صرت كعظم الرّمّة البالى
فاقتنع سائله (١).
وإذا رجعنا إلى أساليب الثلاثة وجدنا الأخطل يعنى أشد العناية بصقل ألفاظه وتنقيحها، وكأنه من ذوق مدرسة زهير الجاهلية، ولم يكن الفرزدق يعنى بصقل ألفاظه كل هذه العناية، ومن ثم ظهر فيها كثير من صور الانحراف والشذوذ على نحو ما مرّ بنا فى غير هذا الموضع، وقد أتاه ذلك-كما أسلفنا-من