للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولعله هو الذى ألهمه عنايته بالصحراء ووصف مناظرها الطبيعية، وقد مضى يتغناها إلى أن دفن فى أحضانها سنة ١١٧ للهجرة.

وذو الرمة يتخلف فى المديح والهجاء جميعا عن فحول عصره أمثال الفرزدق وجرير، وكأن الطبيعة وما اقترن بها من حبه لم يبقيا فيه بقية. وملهمته الأولى فى الديوان ميّة بنت طلبة بن قيس بن عاصم، فقد رآها فى بعض رحلاته، فشغفت قلبه حبّا، وظل يتغنى باسمها وحبها فى كل مكان. وفى الديوان أخرى تسمى خرقاء، ولعله كان يكنى بها عن مية، وإن كان من الرواة من زعم أنها امرأة أخرى. وحبّ ذى الرمة حب عفيف كله أنين وزفرات ودموع وحنين بالغ من مثل قوله:

وقفت على ربع لميّة ناقتى ... فما زلت أبكى عنده وأخاطبه

وأسقيه حتى كاد مما أبثّه ... تكلّمنى أحجاره وملاعبه (١)

وقوله:

وحبّها لى سواد الليل مرتعدا ... كأنها النار تخبو ثم تلتهب

وقوله:

أدارا بحزوى هجت للعين عبرة ... فماء الهوى يرفضّ أو يترقرق (٢)

وقوله:

أجل عبرة كادت لعرفان منزل ... لميّة لو لم تسهل الماء تذبح

ولعل شاعرا عربيّا لم يكثر من وصف دموعه كما أكثر ذو الرمة، وعبثا كان يطفئ بها نيران الحب المندلعة فى قلبه لمية، وقد مضى يتعزّى عنها بمحرابها الذى كانت تعيش فيه، فإذا هو أكبر شاعر يتغنى بالصحراء العربية، وحقّا كان الشعراء قبله وحوله يصفونها، ولكنه امتاز منهم بأنه عشقها، عشق أيامها ولياليها ورمالها وكثبانها وآجامها وأعشابها وأشجارها وحيوانها الأليف والوحشى


(١) أسقيه: أدعو له بالسقيا.
(٢) حزوى: موضع بديار تميم. يرفض: يسيل. يترقرق: يسكن فى العين جائلا.

<<  <  ج: ص:  >  >>