للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكل ما يطوى فيها من آبار وسمائم وسراب وطير ورياح وكل ما يلمع فى سمائها من كواكب ونجوم وسحاب وغيوم.

وكأنما وجد ذو الرمة عشقه الحقيقى فى الصحراء، فإذا هو ينقل مناظرها إلى شعره فى لوحات رائعة، وارجع إلى القصيدة الأولى فى ديوانه التى يفتتحها بوصف دموعه التى تسيل دائما ولا تفتر، إذ يقول:

ما بال عينك منها الماء ينسكب ... كأنه من كلى مفريّة سرب (١)

فإنك ستراه يخص محبوبته بنحو عشرين بيتا، ثم يمضى فى نحو مائة بيت يصور ثلاثة مشاهد رائعة من مشاهد الصحراء التى كانت تبهج نفسه، أولها مشهد أتن الوحش وحمارها، وهو يقودها فى يوم حارّ إلى ماء بعيد، تصل إليه، وتهوى عليه تريد أن تشفى غلّتها، فيتعرض لها صائد مختف وراء الأشجار بسهامه، فتفرّ على وجهها، وتطيش سهامه، ودائما تطيش هذه السهام فى شعر ذى الرمة حبّا للحيوان. والمشهد الثانى مشهد ثور الوحش فى كناسه مكتنّا من المطر، وقد ترامت حوله حنادس الليل ووساوسه، وتتفلت أضواء الصباح فيخرج من كناسه للرعى وإذا بصائد قد أرسل عليه كلابه، فيمزقها إربا، وينكشف عنه همه وروعه. والمشهد الثالث مشهد الظليم وصاحبته يرعيان بعيدا عن أفراخهما، ويكفهرّ الجو، فيسرعان إليها خيفة أن يسقط عليها برد السماء أو بعض السباع. وذو الرمة فى المشاهد الثلاثة يشبه الرسامين الذين يحشدون فى لوحاتهم جميع الجزئيات والتفاصيل، فهو يجسّم صورة الحيوان وصورة الصحراء من حوله برمالها ومفازاتها وأعشابها ونباتاتها وغدرانها، وهو إلى ذلك يبثّ فى الحيوان مشاعر الإنسان وما يعتريه من وساوس وهواجس.

وقد صور فى الثور حين هاحمته الكلاب شعوره بعزته وكأنه يمثّل فيه البدوى وإحساسه بكرامته، كما صور فى الظليم وصاحبته عاطفة الأبوة والأمومة الرحيمة.

ولعل هذه أهم خاصة تميّز وصف الحيوان الوحشى عند ذى الرمة إذ يحمّله


(١) الكلى: الرقع فى عروة المزادة. مفرية: مقطوعة، يشبه عينه التى يسيل دمعها برقع المزادة اليالية التى لا تنى ترسل الماء.

<<  <  ج: ص:  >  >>