للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

«أما بعد فإنى أحذّركم الدنيا فإنها حلوة خضرة (١)، حفّت بالشهوات. . .

مع أن امرأ لم يكن منها فى حبرة (٢)، إلا أعقبته بعدها عبرة، ولم يلق من سرّائها بطنا، إلا منحته من ضرّائها ظهرا، ولم تطلّه غبية (٣) رخاء، إلا هطلت عليه مزنة (٤) بلاء، وحرىّ إذا أصبحت له منتصرة أن تمسى له خاذلة متنكرة، وإن جانب منها اعذوذب واحلولى (٥) أمرّ عليه منها جانب وأوبى (٦)، وإن آتت امرءا من غضارتها (٧) ورفاهتها نعما أرهقته من نوائبها نقما، ولم يمس امرؤ منها فى جناح أمن إلا أصبح منها على قوادم (٨) خوف، غرّارة غرور ما فيها، فانية، فان من عليها، لا خير فى شئ من زادها إلا التقوى».

وتمضى الخطبة وهى طويلة على هذا النحو من الوعظ والترغيب والترهيب، وواضح ما فيها من جمال اللفظ وروعة أسره، وقد اختار لها قطرى السجع حتى يؤثر فى نفوس سامعيه أقوى تأثير، ولم يكتف بالسجع، بل أضاف إليه التصوير، كما أضاف الطباق، حتى يبلغ كل ما يريد من تنميق معانيه.

وممن اشتهر من خطباء الأزارقة عبيدة بن هلال اليشكرى وزيد بن جندب الإيادى وعبد ربّ الصغير.

ويلقانا بين خطباء الصّفرية عمران بن حطّان وصالح بن مسرّح الذى كان يعظهم ويقص فيهم قصصا كثيرا وكان فى وعظه وقصصه يحمل على بنى أمية ومن معهم من الجماعة الإسلامية حملات شعواء، حتى إذا بلغ من إثارة أصحابه فى الجزيرة والموصل ما أراد خرج على الحجّاج، وقتل، فخلفه شبيب الذى دوّخ جيوش الحجاج طويلا، ومن قول صالح فى بعض مواعظه (٩):

«أوصيكم بتقوى الله والزهد فى الدنيا والرّغبة فى الآخرة وكثرة ذكر الموت، وفراق الفاسقين وحب المؤمنين، فإن الزهادة فى الدنيا ترغّب العبد فيما عند الله وتفرّغ بدنه لطاعة الله، وإن كثرة ذكر الموت تخيف العبد من ربه، حتى


(١) خضرة: ناضرة.
(٢) حبرة: سرور.
(٣) الطل: المطر القليل. الغبية: المطرة القليلة.
(٤) الهطل: المطر الكثير. المزنة: السحابة الممطرة.
(٥) احلولى: صار حلوا.
(٦) أوبى: من الوباء.
(٧) الغضارة: النضارة والخصب.
(٨) القوادم: الريش فى مقدم جناح الطائر.
(٩) تاريخ الطبرى ٥/ ٥٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>