للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بديعة (١) يصور فيها سياسته ودستوره فى الحكم معلنا أنه إن وفّى بما عاهد عليه الله فعلى الناس السمع والطاعة وإلا فلهم أن يخلعوه، ويقول إنه لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق.

وكان ولاة بنى أمية وقوادهم لا يزالون يستوجبون على الناس الطاعة والولاء لخلفائهم، نجد ذلك عند عتبة بن أبى سفيان والى مصر وعند ولاة العراق من أمثال زياد والحجاج وخالد القسرى، وكانوا يضيفون إلى ذلك وعيدا وتهديدا باستخدام القوة. ولعل أحدا لم يبلغ من ذلك ما بلغه الحجاج، ومن خير ما يمثل ذلك خطبته فى الكوفة حين قدم على العراق واليا من قبل عبد الملك، وفيها يقول (٢):

«إنى لأرى رءوسا قد أينعت وحان قطافها، وإنى لصاحبها، وإنى لأنظر إلى الدماء ترقرق بين العمائم واللّحى. إنى والله يا أهل العراق والشقاق والنفاق ومساوئ الأخلاق ما أغمز تغماز التّين ولا يقعقع لى بالشّنان (٣)، ولقد فررت (٤) عن ذكاء وفتّشت عن تجربة. إن أمير المؤمنين كبّ كنانته (٥) ثم عجم (٦) عيدانها، فوجدنى أمرّها عودا، وأصلبها عمودا، فوجّهنى إليكم، فإنكم طالما أوضعتم (٧) فى الفتن واضطجعتم فى مراقد الضلال وسننتم سنن الغىّ. أما والله لألحونّكم (٨) لحو العصا ولأضربنّكم ضرب غرائب الإبل (٩). . أما والله لتستقيمنّ على طريق الحق أو لأدعنّ لكل رجل منكم شغلا فى جسده».

وهو يفتتح هذه الخطبة بأشعار تمتلئ باللفظ الغريب، حتى يأخذ على سامعيه أنفاسهم. وقد زخرت خطبته بأسلوب تصويرى قوى، وهو يعدّ فى الذروة من أهل الخطابة والبيان فى العصر، حتى ليوضع مع زياد بن أبيه فى طبقة واحدة، وإن فضله زياد بحلاوة منطقه، فقد كان يمتاز بجزالة اللفظ وفخامته،


(١) البيان والتبيين ٢/ ١٤١.
(٢) البيان والتبيين ٢/ ٣٠٧ وعيون الأخبار ٢/ ٢٤٤.
(٣) القعقعة: التحريك، الشنان: جمع شن وهو القربة البالية كانوا يحركونها إذا استحثوا الإبل للمسير. مثل يضرب لمن يروعه ما لا حقيقة له.
(٤) فررت: اختبرت.
(٥) الكنانة: جعبة السهام.
(٦) عجم: اختبر.
(٧) أوضع: أسرع فى سيره أو ساربين القوم.
(٨) لحا العصا: قشرها.
(٩) قال الجاحظ: تضرب عند الهرب وعند الخلاط على الحوض إذ تختلط بغيرها فتضرب وتبعد.

<<  <  ج: ص:  >  >>