للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأبلغهم وأعجبهم وأبينهم، ويروى أنه حضر يوما مجلس عبد الله بن عمر بن عبد العزيز فى إمارته على العراق (١٢٦ - ١٢٩ هـ‍) وحضره معه خالد بن صفوان وشبيب بن شيبة والفضل بن عيسى الرقاشى، وتبارى الأربعة بين يديه فى الخطابة، ففضلهم بخطبته المشهورة التى جانب فيها الراء، إذ كان يلثغ فيها لثغا فاحشا، ونوّه بذلك بشار بن برد طويلا، قبل أن يفسد رأى واصل فيه، على شاكلة قوله (١):

أبا حذيفة قد أوتيت معجبة ... فى خطبة بدهت من غير تقدير

وقوله:

تكلفوا القول والأقوام قد حفلوا ... وحبّروا خطبا ناهيك من خطب

فقام مرتجلا تغلى بداهته ... كمرجل القين لما حفّ باللهب (٢)

وجانب الراء لم يشعر بها أحد ... قبل التّصفّح والإغراق فى الطلب

ولا نستطيع أن نزعم كما زعم بشار أن واصلا ألقى هذه الخطبة على البديهة فإن من يرجع إليها يحسّ أثر التروية والتحضير وأنه تأتّى لها فى أناة حتى اتسقت فى نسقها البديع، وهى من خير مواعظ العصر وأجملها وأبرعها، وقد استهلّها بتحميد وتمجيد أطنب فيهما إطنابا لا نعرفه لأحد من رصفائه، على هذا النمط (٣):

«الحمد لله القديم بلا غاية، والباقى بلا نهاية، الذى علا فى دنوّه، ودنا فى علوّه، فلا يحويه زمان ولا يحيط به مكان، ولا يئوده (٤) حفظ ما خلق، ولم يخلقه على مثال سبق، بل أنشأه ابتداعا، وعدّله اصطناعا، فأحسن كلّ شئ خلقه، وتمّم مشيئته، وأوضح حكمته، فدلّ على ألوهيته، فسبحانه لا معقّب (٥) لحكمه ولا دافع لقضائه، تواضع كل شئ لعظمته، وذلّ كل شئ لسلطانه، ووسع كلّ شئ فضله، لا يعزب عنه مثقال حبّة وهو السميع العليم. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده إلها تقدّست أسماؤه، وعظمت آلاؤه، وعلا عن صفات


(١) انظر فى هذا البيت وما يليه البيان والتبيين ١/ ٢٤.
(٢) القين: الحداد.
(٣) انظر فى هذه الخطبة الحلقة الثانية من الرسائل النادرة لعبد السلام هرون وجمهرة خطب العرب لأحمد زكى صفوت ٢/ ٤٨٢.
(٤) يئوده: يثقله.
(٥) لا معقب: لا راد.

<<  <  ج: ص:  >  >>