للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وطحنتهم بكلكلها (١)، وعضّتهم بأنيابها، وعاضتهم من السّعة ضيقا، ومن العزة ذلا، ومن الحياة فناء، فسكنوا اللّحود، وأكلهم الدود، وأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم، ولا تجد إلا معالمهم، ولا تحسّ منهم من أحد، ولا تسمع لهم نبسا».

وهذا الشطر من موعظة واصل يصور لنا كيف كان القصاص يتحدثون طويلا عن الأمم الداثرة والدول الزائلة حديثا أطالوا فيه مستوعبين لقصص الرسل وشعوبهم وخاصة تلك التى عصتهم، وما صبّ الله عليها من عذابه مما دفعهم دفعا إلى جلب ما ورثه أهل الديانات السماوية من أخبار عن الأنبياء، يقصدون بذلك إلى الموعظة الحسنة. ويعود واصل إلى الوصية بالتقوى والانتفاع بالقرآن وما به من أحسن القصص وأبلغ المواعظ، وكفى به واعظا هاديا.

ويشيد الجاحظ ببلاغة واصل وأنه كان أحد الأعاجيب فى بلاغته، إذ كان فاحش اللّثغة فى الراء، فخلّص كلامه منها تخليصا، بحيث لم يكن أحد يفطن لذلك لبيانه الرائع، يقول: إنه كان داعية ورئيس نحلة. وعرف أن مخرج لثغته شنيع وأنه يقارع أرباب النحل وزعماء الملل وأن لا بد له من حسن البيان وإعطاء الحروف حقوقها من الفصاحة، ومن أجل الحاجة إلى ذلك «رام إسقاط الراء من كلامه وإخراجها من حروف منطقه، فلم يزل يكابد ذلك ويغالبه، ويناضله ويساجله، ويتأتّى لستره والراحة من هجنته حتى انتظم له ما حاول واتّسق له ما أمّل. ولولا استفاضة هذا الخبر وظهور هذه الحال حتى صار لغرابته مثلا ولطرافته معلما لما استجزنا الإقرار به والتأكيد له. ولست أعنى خطبه المحفوظة ورسائله المخلّدة، لأن ذلك يحتمل الصنعة، وإنما عنيت محاجّة الخصوم ومناقلة (٢) الأكفاء ومفاوضة الإخوان. . وذكر ذلك أبو الطّروق الضّبىّ فقال

عليم بإبدال الحروف وقامع ... لكل خطيب يغلب الحقّ باطله (٣)»

ولا شك فى أن عدول واصل عن الكلمات ذوات الراء فى جميع محاوراته آية بينة على تمام آلته فى البلاغة وإحكام صنعته. وكان رأسا فى الوعظ والاعتزال


(١) الكلكل: الصدر.
(٢) مناقلة: مدافعة.
(٣) البيان والتبيين ١/ ١٤ وما بعدها.

<<  <  ج: ص:  >  >>