للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

«إن قوما غدوا فى المطارف (١) العتاق والعمائم الرقاق يطلبون الإمارات ويضيّعون الأمانات، يتعرضون للبلاء وهم منه فى عافية، حتى إذا أخافوا من فوقهم من أهل العفّة وظلموا من تحتهم من أهل الذّمّة أهزلوا دينهم وأسمنوا براذينهم (٢) ووسعوا دورهم وضيّقوا قبورهم. ألم ترهم قد جدّدوا الثياب وأخلقوا الدين، يتكئ أحدهم على شماله، فيأكل من غير ماله. . يدعو بحلو بعد حامض وبحارّ بعد بارد وبرطب بعد يابس، حتى إذا أخذته الكظّة (٣) تجشّأ من البشم (٤)، ثم قال يا جارية هاتى حاطوما (٥) يهضم الطعام، يا أحيمق لا والله لن تهضم إلا دينك أين جارك؟ أين يتيمك؟ أين مسكينك؟ أين ما أوصاك الله عزّ وجل به؟ »

وبمثل هذه العظة كان يحمل على من يطلبون الدنيا والظفر فيها بحكم الناس، حتى إذا حكموهم ظلموهم وعاشوا للذاتهم يلبسون فاخر الثياب ويركبون أنفس الدواب، ويطعمون طعاما مختلفة ألوانه، غير مفكرين فى حقوق الرعية بل طارحين وراء ظهورهم ما أوصى به الدين الحنيف من رعاية الجار واليتيم والمسكين.

وكان يعنف بالأغنياء عنفه بالحكام، فقد شغلهم متاع الدنيا عن طلب الآخرة حتى أصبحوا كالشجرة التى قلّ ورقها وكثر شوكها، وإنه ليجزع من انصرافهم إلى نعيم الحياة وسلعها البائرة وقعودهم عن الآخرة وسلعها الرابحة، ومن قوله (٦):

«رحم الله امرأ كسب طيبا، وأنفق قصدا، وقدّم فضلا، وجّهوا هذه الفضول حيث وجّهها الله، وضعوها حيث أمر الله، فإن من كان قبلكم كانوا يأخذون من الدنيا بلاغهم ويؤثرون بالفضل. ألا إن هذا الموت قد أضرّ بالدنيا، ففضحها، فلا والله ما وجد ذو لبّ فيها فرحا، فإياكم وهذه السبل المتفرقة التى جماعها الضلالة وميعادها النار. أدركت من صدر هذه الأمة قوما كانوا إذا أجنّهم الليل فقيام على أطرافهم، يفترشون وجوههم، تجرى دموعهم على خدودهم، يناجون مولاهم فى فكاك رقابهم (٧). . يابن آدم إن كان لا بغنيك


(١) المطارف: جمع مطرف هو ثوب من خز.
(٢) براذينهم: دوابهم
(٣) الكظة: الشبع.
(٤) البشم: الامتلاء.
(٥) الحاطوم: الهاضوم المهضم.
(٦) البيان والتبيين ٣/ ١٣٥.
(٧) يريد تخليصهم رقابهم من شهوات الدنيا أو من جزاء لا يرضونه.

<<  <  ج: ص:  >  >>