للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ورياضة فى نسق الكلام وضبط أساليبه، حتى يخلبوا ألباب من يقرءونهم.

ونمضى إلى عصر عبد الملك بن مروان، فنجد بين كتّابه روح بن زنباع الجذامى، وقد وصفه عبد الملك بأنه فارسى (١) الكتابة، وليس بين أيدينا رسائل مأثورة له، وروى له الجهشيارى وغيره كلمة قالها لمعاوية وقد غضب عليه يوما لأمر كان منه، وهمّ به، فقال له (٢):

«لا تشمتنّ بى عدوّا أنت وقمته (٣)، ولا تسوءنّ بى صديقا أنت سررته، ولا تهدمنّ منى ركنا أنت بنيته، هلا أتى حلمك وإحسانك على جهلى وإساءتى؟ ».

فعفا معاوية عنه.

ورأس كتّاب عبد الملك وأبنائه من بعده سليمان بن سعد الخشنىّ كاتب رسائله الذى حوّل الدواوين من الرومية إلى العربية، ولم تنصّ المصادر القديمة على ما كتب به بين يدى الخلفاء. ومما لا ريب فيه أنه كان من أرباب البلاغة والبيان، وفى الجهشيارى أنه خلا بيزيد بن عبد الله كاتب يزيد بن عبد الملك قبل تولّيه الخلافة وكان يزيد حين ولى أزمة الأمور استدعى أسامة بن زيد والى الخراج على مصر، فقال سليمان لابن عبد الله (٤): «لم بعث أمير المؤمنين إلى أسامة بن زيد؟ فقال: لا أدرى، قال: أفتدرى ما مثلك ومثل أسامة؟ قال: لا. قال: مثلك ومثله مثل حيّة كانت فى ماء وطين وبرد، فإن رفعت رأسها وقع عليها حافر دابّة، وإن بقيت ماتت بردا، فمرّ بها رجل، فقالت:

أدخلنى فى كمّك حتى أدفأ ثم أخرج، فأدخلها، فلما دفئت قال لها:

اخرجى، فقالت: إنى ما دخلت فى هذا المدخل قط فخرجت حتى أنقر نقرة، إما أن تسلم منها، وإما أن تموت، وو الله لئن دخل أسامة لينقرنّك نقرة إما أن تسلم معها وإما أن تموت».

والكلمة تدل دلالة بينة على دقة مداخله ومسالكه إلى الإقناع، وإن فى نقله الدواوين ما يدل على سعة ثقافته وهى سعة كانت تقترن بعذوبة المنطق وتزبينه بالألفاظ المستحسنة السائغة على نحو ما توضحه كلمته.


(١) الجهشيارى ص ٣٥.
(٢) البيان والتبيين ١/ ٣٥٨ والجهشيارى ص ٣٥ والأمالى ٢/ ٢٥٩.
(٣) وقمه: قهره وأذله.
(٤) الجهشيارى ص ٥٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>