للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإذا ولّينا وجوهنا نحو العراق والشرق رأينا الكتّاب يعنون برسائلهم عناية لا تقل عن عناية كتاب دمشق، ومما يؤثر من هذه العناية أن نجد عبد الرحمن ابن الأشعث يقول لابن القرّيّة كاتبه حين ثار على الحجّاج: «إنى أريد أن أكتب إلى الحجاج كتابا مسجّعا أعرّفه فيه سوء فعاله وأبصّره قبح سريرته» وينفذ ابن القرية مشيئته، ويردّ عليه الحجاج برسالة مسجوعة (١). ولا تهمنا الرسالتان بقدر ما تهمنا رغبة ابن الأشعث فى أن تكون الرسالة مسجوعة، وكأنما يريد أن يضيف إلى حجته فى الثورة حجة فنية من بلاغة كاتبه.

وفى ذلك ما يدل دلالة صريحة على أن الكتابة السياسية أصبحت تقترن بها غايات بلاغية، وكلّ كاتب يأتى من هذه الغايات بما يتفق وذوقه. ومن طريف ما يروى فى هذا الصدد أن يحيى بن يعمر-أحد علماء اللغة الأوائل-كان يكتب ليزيد بن المهلب فى ولايته على خراسان للحجّاج، ولما انتصر يزيد على ملك الترك فى «باذغيس» انتصارا حاسما أمره أن يكتب إلى الحجاج بالفتح فكتب (٢):

«إنا لقينا العدوّ، فمنحنا الله أكتافهم، فقتلنا طائفة، وأسرنا طائفة، ولحقت طائفة بعرائر (٣) الأودية وأهضام (٤) الغيطان، وبتنا بعرعرة (٥) الجبل وبات العدو بحضيضه (٦)».

وواضح أن ذوق يحيى بن يعمر اللغوى أدّاه إلى أن يسوق رسالته فى هذه الألفاظ الغريبة، وشجّعه على ذلك أنه كان يعرف ذوق الحجاج واستحسانه لأوابد الألفاظ، على نحو ما قدّمنا فى غير هذا الموضع. وفعلا راعت الرسالة الحجّاج، فقد روى الرواة أنه حين قرأها قال: ما يزيد بأبى عذرة هذا الكلام. فقيل له: إن معه يحيى بن يعمر، فكتب إلى يزيد أن يشخصه إليه، فلما أتاه سأله عن مولده فقال له: الأهواز، فسأله: أنّى لك هذه الفصاحة؟ قال: أخذتها عن أبى (٧).


(١) الأخبار الطوال للدينورى (طبع ليدن) ص ٣٢٣.
(٢) البيان والتبيين ١/ ٣٧٧ والمبرد ص ١٥٨ والطبرى ٥/ ١٨٧.
(٣) عرائر الأودية: أسافلها.
(٤) أهضام الغيطان: مداخلها. والغيطان: جمع غائط وهو المستوى من الأرض.
(٥) عرعرة الجبل: أعلاه.
(٦) الحضيض: القرار من الأرض عند منقطع الجبل.
(٧) البيان والتبيين ١/ ٣٧٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>