للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكان لهذه السيول التى كانت ما تنى تسيل إلى حجور العلماء والأطباء والمترجمين والشعراء والمغنين أثرها الواسع فى نهضة العلوم والآداب والفنون، فقد كفى أصحابها مئونة العيش، وكان منهم كثيرون يرتّب لهم رزق معلوم يأخذونه فى كل شهر أو فى كل سنة، بل لقد كان منهم وخاصة من المغنين والشعراء من يثرى ثراء فاحشا حتى ليقال إنه صار إلى إبراهيم الموصلى المغنى أربعة وعشرون مليون درهم سوى رزقه أو راتبه الجارى وهو عشرة آلاف درهم فى كل شهر وسوى غلاّت ضياعه (١)، ويقال إن سلما الخاسر خلّف حين توفى خمسين ألف دينار (٢)، وما وصل الأصمعى من الرشيد والبرامكة يتجاوز كل حد، وكذلك ما وصل أبا يوسف القاضى من الرشيد، ويقال إنه دخل عليه وفى يده درتان بديعتان يقلّبهما وينظر فيهما، فقال له: هل رأيت أحسن منهما؟ فأجابه: نعم الوعاء الذى هما فيه، فألقى بهما إليه (٣)، ويروى أن زبيدة زوجة الرشيد مرّت بإحدى فتاواه فأهدته حقّا من فضة بداخله حقان مملوءان طيبا، وبأحدهما جام من ذهب مملوء دراهم وبالثانى جام فضة مملوء ذهبا، مع غلمان وتخوت من ثياب وبعض الدواب الفارهة (٤). وسنعرض فى الفصل التالى لما سكبه الخلفاء والوزراء والولاة وعلية القوم من أموال على العلماء والمؤدبين والأطباء والمترجمين مما جعل حياتهم نعيما خالصا.

وطبيعى أن تدفع هذه الأموال لا إلى النعيم فحسب، بل أيضا إلى الترف فى الحياة وكل أسبابها المادية من دور مزخرفة وفرش وثيرة وثياب أنيقة معطرة ومطاعم ومشارب من كل لون والتماس لكل أدوات الزينة والتفنن فيها تفننا يتيح كل ما يمكن من استمتاع بالحياة. ويصور ذلك من بعض الوجوه ما يروى عن مجلس للمهدى كان يجلس فيه على فرش موردة وعليه ثياب موردة وعلى رأسه جارية تلبس هى الأخرى ثيابا موردة (٥)، وما يروى عن مجلس الرشيد من أنه كان يعبق بالطيب والرعفران والأفاويه من كل شكل (٦)، وأيضا ما يروى عن زواج المأمون ببوران بنت ويره الحسن بن سهل، فقد أنفق فيه ما يفوق أغرب القصص الخيالية، إذ قيل إن أباها فرق على حاشية المأمون رقاعا بأسماء كثير من الضياع وبدرا من


(١) أغانى ٥/ ١٦٣.
(٢) أغانى (ساسى) ٢١/ ٧٧.
(٣) النجوم الزاهرة ٢/ ١٨٢.
(٤) المسعودى ٣/ ٢٦٠.
(٥) الجهشيارى ص ١٦٠.
(٦) الطبرى ٦/ ٥٣٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>