للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكنّ يلبسن جوارب الحرير ويتحلين بعقود الأزهار من بنفسج وغير بنفسج، ويقول الجاحظ إن المرأة حين كانت تزوّج ابنتها تحليها بالذهب والفضة وتكسوها المروزىّ والوشى والقزّ والخزّ وتعلّق لها المعصفر وتدق الطيب حتى تعظّم أمرها فى عين زوجها وأهله (١). ولعل امرأة لم تبلغ من التأنق ما بلغته زبيدة زوجة الرشيد وفيها يقول المسعودى إنها: «أول من اتخذ الآلة من الذهب والفضة المكللة بالجوهر وصنع لها الرفيع من الوشى حتى بلغ الثوب من الوشى الذى اتّخذ لها خمسين ألف دينار. . وهى أول من اتخذ القباب من الفضة والآبنوس والصندل. . ملبسة بالوشى والسمور (الفراء) والديباج وأنواع الحرير. . واتخذت الخفاف (النعال) المرصعة بالجوهر، وشمع العنبر، وتشبّه الناس بها» (٢).

ولا ريب فى أن هذا كله كان على حساب العامة المحرومة التى كانت تحيا حياة بؤس تقوم على شظف العيش لينعم الخلفاء والوزراء والولاة والقواد وكبار رجال الدولة وأمراء البيت العباسى الذين بلغوا هم وأبناؤهم نحو ثلاثين ألفا لعهد المأمون (٣). وطبيعى أن يعم البؤس والشقاء من جانب، بينما يعم النعيم والترف من جانب آخر، بل لقد كان للشقاء والبؤس أكثر الجوانب فى الحياة العباسية، فالجمهور يعيش فى الضنك والضيق لا الرقيق منه فحسب الذى كان يعمل فى القصور والضياع، بل أيضا جمهور الناس من الأحرار، وكأنما كانوا جميعا أرقاء فى هذا النظام الذى كفلت فيه أسباب النعيم ووسائل الترف لأقلية محدودة استأثرت لنفسها بطيبات الأرض والرزق وزينة الحياة.

ولعل هذا البذخ وما صحبه من اعتصار الشعب هو السبب الحقيقى فى كثرة الثورات على العباسيين وخاصة فى إيران، مما عرضنا له فى الفصل السابق، وأيضا لعله السبب الحقيقى فى تعلق الناس بالمهدى المنتظر من أبناء على الذى ينشر العدل الاجتماعى فى الأرض، مما هيأ لكثرة الجمعيات السرية واعتناق الناس لعقيدة التشيع على اختلاف فرقها. غير أن المسألة لم توضع وضعا سليما صريحا على أساس مشكلة العدالة الاجتماعية واستنزاف الشعب لمصلحة طبقة تعيش معيشة


(١) البخلاء ص ٢٥. والمروزى نسبة إلى مرو. ويريد الحاحظ بالمعصفر الستور الحريرية التى كانت تعلق على الحيطان.
(٢) المسعودى ٤/ ٢٤٤.
(٣) مقدمة ابن خلدون ص ١٢٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>