للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الشعراء يتملّون بالجمال ومفاتنه، وفى ذلك يقول أبو دلامة (١):

إن كنت تبغى العيش حلوا صافيا ... فالشعر أعزبه وكن نخّاسا

تنل الطرائف من ظراف نهّد ... يحدثن كل عشيّة أعراسا

وهى أعراس ظلت قائمة طوال العصر، وظل الشعراء يختلفون إليها، وكن أحيانا يزرنهم فى دورهم ويبتن عندهم، وقد يشترى الجارية الخليفة أو وزير أو أمير أو قائد مشهور أو أحد العلية من أبناء البيوتات فيظل الشاعر متعلقا بها وتظل تملك عليه كل شئ من أمره على نحو ما كانت تملك عتبة إحدى جوارى قصر المهدى قلب أبى العتاهية وجنان جارية الثقفيين قلب أبى نواس وفوز جارية محمد بن المنصور فتى العسكر قلب العباس بن الأحنف.

وكانت كثيرات منهن يثقّفن بفنون الآداب، فكن يجمعن إلى جمالهن عذوبة الحديث، فيملأن على الشعراء وغيرهم قلوبهم وعقولهم، بل كان منهن من يتقنّ نظم الشعر مثل عنان جارية الناطفى وسكن جارية محمود الوراق وقد عرض عليه بعض الطاهريين أن يشتريها منه بمائتى ألف درهم فأبى التفريط فيها (٢) لما كانت تسعر به قلبه من الحب المضطرم. وكان منهن من يضفن إلى ذلك إجادة الغناء فكنّ فتنة من فتن العصر على نحو ما كانت دنانير جارية البرامكة ومتيّم جارية على بن هشام أحد قواد المأمون وعريب جارية الأمين والمأمون.

وكان للغناء فى الناس لهذا العصر أثر أى أثر، فقد شغلوا به أى شغل، وكأنه نعيمهم من دنياهم الذى لا يؤثرون سواه لما يبعث فى نفوسهم من غبطة وابتهاج، ومعروف أنه انتقل من الحجاز إلى العراق لأواخر عصر بنى أمية، إذ نرى ابن رامين الكوفى يستقدم مغنيات الحجاز (٣)، ويقيم دارا واسعة يقصدها الناس.

وما تنشأ بغداد ويطلّ عصر المهدى حتى تصبح دارا كبيرة للغناء، فقد جذبت إليها المغنين والمغنيات من كل فجّ، ونثرت الأموال عليهم نثرا-بل كالتها كيلا.

وأول من كالها من الخلفاء المهدى، واقتدى به الهادى، وخلفهما الرشيد فجعل المغنين


(١) أغانى ١٠/ ٢٥٠.
(٢) طبقات الشعراء لابن المعتز ص ٤٢٢.
(٣) انظر أغانى (دار الكتب) ١١/ ٣٦٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>