للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ذلك كان شأوا ارتفع إليه المغنون فى عصره، فقد روى صاحب الأغانى أن مغنيا تغنى فى مجلس الواثق بصوت له، فنظر إليه مخارق نظرا شزرا حتى إذا خلا به قال له: «ويحك أتدرى أى صوت غنيت؟ إن إسحق جعل صيحة هذا الصوت بمنزلة طريق ضيق وعر صعب المرتقى، أحد جانبى ذلك الطريق حرف الجبل، وعن جانبه الآخر الوادى، فإن مال مرتقيه عن محجته إلى جانب الوادى هوى، وإن مال إلى الجانب الآخر نطحه حرف الجبل فتكسّر» (١). ولعله بفضل ما كانت تحمل أصوات الغناء من صور التعبير كانت تعلّم وتباع بأعلى الأثمان حتى لقد بيع صوت بمائة ألف دينار (٢)، وكان سراة بغداد يتهادونها كما يتهادون التحف الثمينة (٣).

وبلغ من رقى هذا الفن وارتفاع شأنه فى النفوس أن أقبل أبناء الخلفاء وعلية القوم على تعلمه وإتقانه حتى لنراهم يصنعون فيه ألحانا وأصواتا تنسب إليهم، على نحو ما أشرنا إلى ذلك آنفا عند الواثق، وقد فتح أبو الفرج فى أغانيه فصلا بل فصولا طويلة (٤) لأبناء الخلفاء وما أثر عنهم من أصوات. وأشهرهم فى هذا الباب إبراهيم ابن المهدى وأخته علية وكان إبراهيم يعدّ فى كبار المغنين المحسنين، وله أصوات (٥) كثيرة، وكانت علية مثله تجيد الغناء وقد خلّفت فيه ثلاثة وسبعين صوتا (٦) وممن برع فى الغناء وأثرت عنه أصوات بديعة فيه عبد الله (٧) بن طاهر، وأبو دلف (٨) العجلى قائد المأمون المشهور

وقد جعل هذا الغناء الذى ملأ حياة الناس واستأثر بقلوبهم يرفع من أثمان الجوارى المسمّين بالقيان اللائى كن يتقنّه ويدلعن ناره فى القلوب ونسيمه الحلو الصافى، وقد مرّ بنا ما بيعت به عريب مرارا وما بيعت به بذل وفلم الصالحية، ويقال إن صالح بن على عم المنصور اشترى سعدة بتسعين ألف درهم واشترى ابن أخيه جعفر بن سليمان ربيحة بمائة ألف والزرقاء بمائة ألف ثانية (٩)، والثلاث


(١) أغانى ٥/ ٣٠٥.
(٢) أغانى (دار الكتب) ٧/ ٣٠٠
(٣) أغانى ٥/ ٣٨٤.
(٤) أغانى ١٠/ ٩٥، ١٦٢ وفى موضع متفرقة.
(٥) انظر ترجمته فى الأغانى ١٠/ ١٥
(٦) أغانى ١/ ١٧٤.
(٧) أغانى ١٢/ ١٠٦.
(٨) أغانى ٨/ ٢٤٨
(٩) أغانى ١٥/ ٦٢ ما بعدها.

<<  <  ج: ص:  >  >>