للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ما كان يقع الشعراء فى حب بعض الجوارى المكتملات الخلق الجميلات الجسد، فيستأثرن بكل ما فيهم من عاطفة وهوى على نحو استئثار ريم بقلب مطيع (١) بن إياس، وعبادة بقلب عبد الله (٢) بن محمد البواب وعنان بقلب أبى النضير (٣)، وسلسل بقلب أبان (٤) بن عبد الحميد. وكن يتبارين فى جذب الشعراء بما يشعن فى أحاديثهن من عذوبة حلوة وبما يحسن من صنوف الغزل والعبث بقلوب الرجال.

وكثيرات من هؤلاء القيان والجوارى كن يحسن الرقص، ويظهر أنه بلغ حينئذ حظّا واسعا من الرقى على نحو ما يصور لنا ذلك المسعودى بما ضبط من إيقاعاته على الغناء ورسم من صفاته (٥)، ويذكر ابن خلدون أنه كان للرقص عندهم آلات خاصة فى الملبس وما يستخدمن من قضبان مع ما يترنمن به من أشعار، ويقول إنه كان عندهم ضرب آخر من الرقص يتخذن فيه آلات تسمى الكرّج وهى تماثيل خيل مسرجة من الخشب معلّقة بأطراف أقبية، يلبسها النساء ويحاكين بها امتطاء الخيل فيكررن ويفررن كأنهن فى حرب (٦)، وفى كتاب الأغانى أن الأمين كان يرتكض فى الكرّج بصحن قصره، بينما الوصائف من حوله يغنين على الطبول والسّرنايات والمخنثون يزمرون ويطربون (٧).

وقد أشاع هؤلاء الجوارى والقيان فى المجتمع كثيرا من ضروب الرقة والظّرف، فقد جعلت كثرة معاشرتهن الرجال لهن يتعودون كيف يتلطفون لقلوبهن، وكيف يستنزلونهن بالكلام الرقيق إلى ودّهم، وكيف يحيطونهن بأشراك الحديث الساحر الذى يشغف قلوبهن ويملؤها بالعطف والحنان، وكان لذلك أثره البالغ فى الشعر والشعراء، فقد شاعت فى كثير من معانيهم الرقة المفرطة والإشارة الدالة واللمحة المعبرة.

واقترنت بهذا الظرف مظاهر كثيرة فى الأزياء وفى العطور وآداب الطعام والسمر، ومن أهم مظاهره تهادى القوم بالأزهار والرياحين رامزين بأسمائها وأشكالها


(١) أغانى ١٣/ ٣٠٠.
(٢) أغانى (ساسى) ٢٠/ ٤٤.
(٣) أغانى (طبع دار الكتب) ١١/ ٢٨٦.
(٤) أغانى ١٠/ ٤٨.
(٥) المسعودى ٤/ ١٦١.
(٦) مقدمة ابن خلدون (طبعة المطبعة البهية) ص ٣٠٠.
(٧) أغانى (طبعة الساسى) ١٦/ ١٣٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>