للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والمجون ما جعل أباه ينصحه أن يخرج إلى بعض البساتين لعله يسلو الخمر، وغاب فيها طويلا، فكتب إليه أبوه يتشوقه، وما كان أشد عجبه حين أجابه بقوله (١):

يا أبى لا ترث لى من غيبتى ... أنا فى خير ولهو ودعه

ومعى فى كل يوم مسمع ... حاذق يطربنى أو مسمعه

وندامى كمصابيح الدّجى ... كلهم يأخذ كأسا مترعه

لا يبالى من لحا فى شربها ... أبدا حتى يوارى مصرعه

فالبساتين أو على الأقل طائفة منها تحولت إلى حانات كبيرة للخمر والقصف والمتعة بسماع بعض المغنين والقيان.

وكانت الأديرة تقدم لروّادها الخمر المعتقة وقد استحالت قاعات شرابها إلى مجتمعات لطلاب الخمر والمجون من الشعراء وغيرهم، وكانت متناثرة فى ضواحى بغداد وغيرها من مدن العراق، ونرى الشعراء الماجنين يذكرون خمرها ونشوتها ورهبانها وراهباتها من مثل قول أبى نواس (٢):

يا دير حنّة من ذات الأكيراح ... من يصح عنك فإنى لست بالصاحى

رأيت فيك ظباء لا قرون لها ... يلعبن منا بألباب وأرواح

بل لقد كثرت أشعارهم فيها كثرة مفرطة دفعت كثيرين إلى تخصيص مؤلفات لها على نحو ما هو معروف عن كتاب الديارات للشابشتى، وفيه نزاها تتحول فى العراق إلى دور واسعة للهو والعبث.

وكثير من دور الشعراء أنفسهم فى بغداد وغير بغداد تحولوا بها إلى مقاصف للخمر والمجون على نحو ما كانت دور مطيع بن إياس ورفقائه فى الكوفة ودار بشار فى البصرة ودار أبى نواس فى بغداد. وكانت هناك أيام على مدار السنة يخرجون فيها للهو والقصف والعبث والمجون، وهى أيام الأعياد: أعياد الإسلام وأعياد الفرس والنصارى وكانت تأخذ شكل كرنقالات عظيمة، يخرج فيها الناس للشراب


(١) الأوراق للصولى، أخبار الشعراء ص ٢٦.
(٢) الديارات النصرانية فى الإسلام لحبيب زيات (طبع بيروت) ص ٢٢. وذات الأكيراح: موضع.

<<  <  ج: ص:  >  >>