للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كثيرة. وفى أواخر القرن الخامس للميلاد يظهر فى إيران داع جديد هو مزدك وكان ثنويّا (١) يؤمن بإلهى النور والظلمة وتقديس النار، وقد مضى يدعو دعوة صارحة إلى العكوف على اللذات والشهوات والإمعان فيها، وأحلّ النساء وأباح الأموال وجعلها شركة للناس، وكان له-كما كان لمانى-أتباع كثيرون.

وقد عامل الإسلام والمسلمون المجوس معاملة أهل الكتب السماوية، وبذلك ظلت المجوسية حية حياة قوية حتى العصر العباسى، ومرّ بنا ما كان من ثورات سنباذ والخرمية فى خراسان وأذربيجان وطبرستان، وهى ثورات كانت تستوحى هذه الملل المجوسية السابقة، وكانت تسرى فى نفوس كثيرين من نازلة بغداد والعراق سرّا وجهرا، وكانت المانوية أخطرها جميعا لما كانت تأخذ به من الزهد ومن بعض التعاليم المسيحية، مما جعلها تقترب من دعوات الديانات السماوية فى السلوك وفى التخلق بالخلق الحسن، وإن افترقت عنها بعد ذلك افتراقا شديدا فى ثنويتها وتحليلها الزواج بالبنات والأخوات وما جلبته من بعض مذاهب الهند.

وتنبه المهدى لانتشار هذه الملل المجوسية المارقة فى أمصار العراق ورأى فيها خطرا أى خطر على الدولة والإسلام، فأمر-كما أسلفنا فى الفصل السابق- باتخاذ ديوان خاص لتعقب من يعتنقها من المسلمين ونصب لهم حربا لا هوادة فيها ولا لين، فكل من تثبت عليه زندقته قدّم وقودا لتلك الحرب التى ظلت قائمة إلى عهد ابنه الرشيد. ويظهر أن الفرس كانوا قد نشطوا نشاطا واسعا فى نشرها بين الناس ونشط معهم كثير من الزنادقة أنفسهم يترجمون كتب النحل الفارسية ويصنّفون فى الدعوة لها وفى تعاليمها، وأيضا فهم وبعض النصارى نقلوا إلى العربية كتب بعض مارقة النصارى وملحدتهم مثل مرقيون (٢) وابن ديصان (٣)، يقول المسعودى: «أمعن المهدى فى قتل الملحدين والمداهنين فى الدين لظهورهم فى أيامه وإعلانهم باعتقاداتهم فى خلافته لما انتشر من كتب مانى وابن ديصان ومرقيون


(١) انظر فى مزدك والمزدكية الفهرست ص ٤٧٩ والشهرستانى ص ١٩٢ وفجر الإسلام ص ١٣٠.
(٢) من أهل آسيا الصغرى وكان يعتنق المسيحية وانحرف عن تعاليمها وكون لنفسه مذهبا مستقلا كان فيه الملهم لا بن ديصان، وقد طردته الكنيسة سنة ١٤٤ م.
(٣) من أهل الرها ولد سنة ١٥٤ وكان يعتنق المسيحية وشذ على تعاليمها مكونا عقيدة مستقلة فطردته الكنيسة.

<<  <  ج: ص:  >  >>