للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقلّده ابن المعتز الوزارة وتكلم فى المقتدر قائلا: إنه لم يبلغ الحلم وإنه لا تصح للناس صلاة معه ولا حج ولا غزو وقد آن للحق أن يتضح وللباطل أن يفتضح. ولم يكد يمر يوم على هذه البيعة حتى هبّ مؤنس الخادم فى جند كثيرين فنقضها وجدّد للناس بيعة المقتدر وأخرج لهم الأموال وزاد فى الأعطية. ولم يبق مع ابن المعتز أحد فهرب إلى دار ابن الجصاص تاجر الجواهر المشهور وقبض عليه مؤنس وقتله، وبذلك لم تتم له الخلافة إلا لمدة يوم وليلة، وقيل بل لمدة نصف نهار فحسب. وما كان أحراه أن يبتعد عنها، متعظا بما أصاب أباه منها، ولكن النفس أمارة بالسوء.

ولعل فيما سبق ما يوضح العناصر التى كونت شخصية ابن المعتز الأدبية، فهو عربى عباسى يعتز بعروبته وأسرته، ولد فى القصر العباسى وفى كل ما انبثّ فيه من لهو وطرب، على نحو ما هو معروف عن آبائه: الرشيد والمتوكل والمعتز، إذ كانوا يفرغون للهوهم ومتاعهم كلما أتيح لهم الفراغ، وقد يكون فى ذلك بعض البواعث عنده على الإحساس المادى للأشياء، أو قل على وصفها وصفا ماديّا، إذ كان هذا الوصف هو الذى يلائم مزاجه المترف، كما كان يلائم عقله الذى يعيش فى النعيم فلا يستطيع أن يتعمق الأشياء، وإنما يقف عند ظاهرها الحسى المكشوف، وقديما أشار ابن الرومى إلى تأثير بيئته المترفة فى شعره، وإن كانت إشارته من طرف آخر ولكنه يلتقى بما قدمنا، فقد سأله شخص: لم لا تشبه تشبيه ابن المعتز وأنت أشعر منه؟ فقال له: أنشدنى شيئا من شعره أعجز عن مثله، فأنشده وصف ابن المعتز للهلال:

انظر إليه كزورق من فضّة ... قد أثقلته حمولة من عنبر

فقال ابن الرومى له: زدنى، فأنشده:

كأن آذريونها ... والشمس فيه كاليه (١)

مداهن من ذهب ... فيها بقايا غاليه (٢)

وصاح ابن الرومى: واغوثاه! لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، ذلك إنما


(١) الآذريون: زهر أصفر فى وسطه حمل أسود.
(٢) الغالية: المسك، وهو أسود.

<<  <  ج: ص:  >  >>