للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يصف ماعون بيته، لأنه ابن الخلفاء وأنا مشغول بالتصرف فى الشعر وطلب الرزق به، أمدح هذا مرّة وأهجو هذا كرّة. وأعاتب هذا تارة وأستعطف هذا طورا (١).

وابن الرومى يلاحظ التأثير المادى المترف للبيئة على ابن المعتز. وعنصر آخر اشترك فى تكوين شخصيته الأدبية بقوة، وهو عنصر ثقافته العربية الإسلامية، وقد جعله ذلك أقرب إلى ذوق المحافظين منه إلى ذوق المجددين، حتى إذا انقسمت بيئات النقاد فى عصره إلى مجددين مسرفين فى التأثر بمقاييس البلاغة اليونانية وتحكيمها فى الشعر العربى من جماعة المترجمين ومن التف حولهم، ومحافظين مسرفين فى رفض هذه المقاييس والتأثر بالمقاييس العربية الخالصة من جماعة اللغويين أمثال ثعلب والمبرد والبحترى من الشعراء، ومعتدلين يتأثرون الضربين من المقاييس دون إفناء الشخصية الأدبية العربية فى المقاييس الأجنبية من أمثال أبى تمام وابن الرومى وجدناه يأخذ صف المحافظين لتعمق إحساسه بعروبته وتغلغل الثقافة العربية الإسلامية فى نفسه، ويصرّح بذلك فى كتابه البديع الذى أنشأه ليثبت أن كل ما استحدثه العباسيون المستظهرون للثقافة اليونانية الفلسفية ليس محدثا فى حقيقته، بل هو يستمد من أصول قديمة فى الشعر الجاهلى والإسلامى والقرآن الكريم والحديث النبوى.

وخصّ أبا تمام برسالة احتفظ بها فى ترجمته كتاب الموشح للمرزبانى، وهى تحمل كل الأسس التى كوّن منها الآمدى حملته على أبى تمام. ومعنى ذلك أنه على الرغم من ذوقه المرهف وحسه الرقيق كان ينحو نحو المحافظين فى فهم الشعر ونقده ونظمه. وكتابه «طبقات الشعراء المحدثين»، يدل على ثقافة واسعة بالشعر العباسى ولكنه استعان بتلك الثقافة نفسها على تأكيد الاتجاه المحافظ عنده؛ إذ سخرّها كما يتضح فى كتابه «البديع» لإثبات أن العباسيين لم يأتوا بشئ ذى بال، وأن كنوز الشعر العربى القديم لا تزال مفتوحة على مصاريعها ليشتق منها العباسيون كل بارع طريف.

ولا بد أن نلاحظ بجانب ذلك مؤثرا نفسيّا أثر فيه وفى شخصيته وشعره آثارا عميقة، ونقصد به مقتل أبيه وجده من قبله، مما آذى نفسه إيذاء شديدا إذ نشأ لا يعرف الأمن ولا اطمئنان القلب، وظل يرافقه هذا الإحساس طوال حياته،


(١) النجوم الزاهرة ٣/ ٩٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>