للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإذا كتمت جوى الأسى بعث الهوى ... نفسا يكون على الضمير دليلا (١)

واها لأيام الصّبا وزمانه ... لو كان أمتع بالمقام قليلا

وحاول بعض الشعراء أن يترك الحديث عن الأطلال المهجورة إلى قصور الحاضرة المأنوسة، وحينئذ كان لا يسترسل فى وصف حنينه، على شاكلة أشجع إذ يستهل إحدى قصائده بقوله (٢):

قصر عليه تحيّة وسلام ... نشرت عليه جمالها الأيام

وعلى نحو ما استبقوا الأطلال وما يتصل بها من حنين يعبث بنفوسهم استبقوا رحلة الصحراء، وتفننوا فى وصف وعوثة طرقها ورياحها الحارة التى تكاد تتوقد توقدا، على شاكلة قول مسلم (٣):

ومجهل كاطّراد السيف محتجز ... عن الأدلاّء مسجور الصياخيد (٤)

تمشى الرياح به حسرى مولّهة ... حيرى تلوذ بأطراف الجلاميد (٥)

فالرياح من شدة الحر وما يحرى فى قلبها من الفزع تلجأ إلى أطراف الصخور المستعلية فوق الآكام. كأنها تريد الفرار من هذا الجحيم المطبق. وقد داروا حول وصف الحيوان الوحشى محاولين أن يستنبطوا بعض الصور الطريفة من مثل قول بشار فى بائيته (٦)، يصور ما نال أتن الوحش من خرقة العطش الشديد:

غدت عانة تشكو بأبصارها الصّدى ... إلى الجأب إلا أنها لا تخاطبه (٧)

وهى صورة تخفق بالحياة، إذ مثّل العطش فى غور أحداقها، حتى لتهمّ بالكلام شاكية لحمارها، ولكن أنّى لها ذلك وهى عجماء لا تبين. وكان الشاعر القديم يكثر من وصف نحول بعيره ونوقه لطول الطرق الوعرة وما يصيبها من شدة الكلال والإعياء، حتى ليشبهها بالأقواس والأهلة ضمورا وهزالا، وردّد الشاعر


(١) جوى الأسى: ناره وحرقته
(٢) ابن المعتز ص ٢٥٢.
(٣) الديوان ص ١٥٤.
(٤) مسجور: موقد. الصياخيد: جمع صيحود وهو اليوم اللافح الحر.
(٥) الجلاميد: الصخور.
(٦) انظر القصيدة فى الديوان ١/ ٣٠٥.
(٧) العانة: القطيع من الأتن. الجأب: حمار الوحش. الصدى: العطش. ومعنى شكواها العطش بأبصارها أنه قد تبين فى أحداقها فغارت.

<<  <  ج: ص:  >  >>