للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود

لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرف العود (١)

وهو كثير الحكم فى مدائحه، وقد صبّ فيها كثيرا من شكوى الزمن وخطوبه، بحيث يعد مقدمة قوية لابن الرومى والمتنبى. وهو يمزج شكواه بمغالبة عاتية للدهر ونوازله، وبذلك كانت مدائحه تسكب القوة فى نفس كل عربى، لا بما يصور من بسالة الأبطال والقواد فى الحروب فحسب، بل أيضا بما يودعها من فتوة عارمة على شاكلة قوله (٢):

أعاذلتى ما أخشن الليل مركبا ... وأخشن منه فى الملمّات راكبه (٣)

ذرينى وأهوال الزمان أفانها ... فأهو اله العظمى تليها رغائبه (٤)

ألم تعلمى أن الزّماع على السّرى ... أخو النّجح عند النائبات وصاحبه (٥)

دعينى على أخلاقى الصّمّ للتى ... هى الوفر أو سرب ترنّ نوادبه

فإن الحسام الهندوانى إنما ... خشونته ما لم تفلّل مضاربه

وعلى هذا النحو ازدهرت المدحة على لسان الشاعر العباسى لا بما رسم فيها من مثاليتنا الخلقية وسجل من الأحداث وصوّر من البطولات العربية فحسب، بل أيضا بما تمثّل من العناصر القديمة وأذاع فيها من ملكاته وما أضافه إليها من عناصر جديدة استمدها من بيئته الحضارية ومن نفسيته وملكاته العقلية. ودفعتهم دقتهم الذهنية إلى أن يلاثموا بين مدائحهم وممدوحيهم، فإذا مدحوا الخلفاء نوهوا بتقواهم وعدلهم فى الرعية، وإذا مدحوا القواد أطالوا فى وصف شجاعتهم، وإذا مدحوا الوزراء تحدثوا عن حسن سياستهم، وكذلك صنعوا بالفقهاء والقضاة والمغنين، فلكل أوصافه التى تخصه، وهى أوصاف طلبوا فيها وفى كل مدائحهم الفكر الدقيق والتعبير الرشيق.


(١) العرف: الرائحة والشذى.
(٢) الديوان (طبع دار المعارف) ١/ ٢٢٦ وطبعة بيروت ص ٤٤.
(٣) يقول إن السرى فى الليل صعب ولكنه أصعب منه. الفتى من الرجال الصلب.
(٤) أفانها: تفنينى وأفنيها.
(٥) الزماع: المضاء فى الأمر، يقول: من ترك الدعة ورحل فى طلب المجد نال طلبته.

<<  <  ج: ص:  >  >>